المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقتل عثمان والفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين /موقعتي الجمل وصفين


أبو يوسف
15-10-2009, 07:18 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مقتل عثمان والفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهم أجميعين/مقتل عثمان (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=4812)

مقتل عثمان والفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهم أجميعين/موقعة الجمل (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=4822)

الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقصة الخوارج (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=4840)

.

نعود لموضوع الفتنة بعد أن قدمنا بالموضوع الأول موضوع قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه

هناااااااااااااااا (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=4812)



مقدمات موقعة الجمل



بعد أن قرّر عليٌّ رضي الله عنه الخروج لمعاوية أتته الأخبار من مكة لتغيّر من مساره تمامًا، كان بمكة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين عدا السيدة أم حبيبة- فقد كانت بالمدينة- وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم جميعًا، وأيضًا يعلى بن أمية التميمي، الذي كان واليًا لعثمان رضي الله عنه على اليمن، ولما حدثت الفتنة جاء إلى مكة، ومعه ستمائة من الإبل، وستمائة ألف درهم من بيت مال اليمن، وعبد الله بن عامر الذي كان واليًا على البصرة من قبل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، واجتمع كل هؤلاء وبدءوا في مدارسة الأمر، وكان رأيهم جميعًا، وكان منهم من قد بايع عليًا رضي الله عنه، أن هناك أولوية لأخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه، وأنه لا يصح أن يؤجل هذا الأمر بأي حال من الأحوال، وقد تزعّم هذا الأمر الصحابيان طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام رضي الله عنهما.



اجتمع هؤلاء جميعًا مع السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأرضاها، وكان تأويلهم في أمر الأخذ بدم عثمان رضي الله عنه، أولًا أنه لو لم يتم الأخذ بدمه في هذا الوقت نكون قد ضيّعنا حدًّا من حدود الله، وتركنا القرآن الذي يقول بالقصاص، وكانت هذه القضية هي شغلهم الشاغل، إذ كيف يتم تعطيل هذا الحدّ من حدود الله.
وكانوا يرون أن من ضيع هذا الحدّ، أو عطّله لا تصح مبايعته، ولم يكن اعتراضهم رضي الله عنهم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه لذاته، وإنما رأوا باجتهادهم أنه يجب أخذ الثأر أولًا لعثمان رضي الله عنه، وكان طلحة رضي الله عنه، والزبير قد بايعا، فلا يصح لهما فعل هذا الأمر، وإنما هو اجتهاد منهما، ولم يصيبا فيه، ولهما أجر، وحتى على فرض أنهما بايعا مُكرَهين، فلا يجوز لهما الخروج على قرار الإمام، ولا يصح خلع الإمام إلا بجماعة المسلمين.
قرر المجتمعون في مكة أن يجهزوا جيشًا، ويذهبوا إلى المدينة المنورة لأخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه؛ لأن عليًا رضي الله عنه لا يستطيع أن يقاتلهم وحده، ووافقت السيدة عائشة رضي الله عنها على هذا الأمر، ووافقت جميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج من مكة إلى المدينة؛ لأخذ الثأر لعثمان بن عفان رضي الله عنه.
وظهر رأي آخر يقول بالذهاب إلى الشام للاستعانة بمعاوية رضي الله عنه على هذا الأمر، فقال عبد الله بن عامر: إن معاوية قد كفاكم أمر الشام.
وأشار عليهم بالذهاب إلى البصرة- وكان واليًا عليها قبل ذلك- للتزود بالمدد، والأعوان منها، وكان له فيها يدٌ ورأي، وقال لهم: إن لطلحة فيها كلمة ورأي.
وقد كان رضي الله عنه واليًا عليها لفترة من الزمن وتأثّروا به.

فكان رأي عبد الله بن عامر أن يذهبوا إلى البصرة، ويبدءوا بقتلة عثمان الموجودين في البصرة، فيقتلونهم، ثم يذهبون بعد أن يتزودوا بالعدد، والعدة إلى المدينة فيأتون على باقي القتلة.


وأعجب هذا الرأي الجميع إلا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالوا لها: [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:114}.
وأن ما تفعلينه بهذا الخروج، إنما هو إصلاح بين الناس، وليس منافيًا لقول الله تعالى: [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ] {الأحزاب:33}.


ورفضت سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى البصرة إلا السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وعن أبيها فقررت الخروج مع السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، إلا أن أخاها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال لها:
إن هذا زمن فتنة، وعليك أن تقرّي في بيتك، ولا تخرجي.
فلما خاطبتها السيدة عائشة في عدم خروجها إلى البصرة قالت لها إن أخاها- أي عبد الله بن عمر- قد منعها، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
غفر الله له.

ويتضح من هذا الموقف مدى قناعة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها بأمر الخروج للبصرة لدرجة أنها تَعُدّ أمر عبد الله بن عمر في منعه للسيدة حفصة رضي الله عنها من الخروج، تعدّ ذلك ذنبًا تستغفر اللهَ لعبد الله بن عمر منه.

كان موقف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هو اعتزال الفتنة من أولها إلى آخرها، وكان رضي الله عنه يصوّر الفتنة بأنها كغمامة جاءت على المسلمين، فلم يعد أحد يرى شيئًا، والكل يسير في طريق يريد أن يصلوا إلى الصواب، فاجتهد فريق منهم في الطريق، فوصل فهذا عليّ ومن معه، واجتهد آخرون لكي يصلوا، ولكنهم أخطأوا الطريق، فمعاوية ومن معه، والبعض انتظر حتى تنقشع الغمامة ثم يرى الرأي، وكان هو رضي الله عنه من هذه الفئة، ثم يقول رضي الله عنه: والمجاهد أفضل.

أي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل، لكن الأمر فيه خطورة كبيرة، وفيها احتمالية الخطأ في الوصول، ولم يكن علي رضي الله عنه يجبر أحدًا على الخروج معه في هذا الأمر، بل كان الأمر تطوعيًا، ومن اعتزل فلا شيء عليه، ولا يُجبَر على رأي من الآراء.

خرجت السيدة عائشة رضي الله عنها من مكة ومن معها من الناس؛ طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأمّرت السيدة عائشة رضي الله عنها عبد الله بن الزبير على الصلاة، وكانت ترى أنه أعلم الناس مع وجود أبيه، وجهّز يعلى بن أميّة البعير، وكانت ستمائة بعير، وبالمال الذي أتى به معه من اليمن عندما قدم إلى مكة.
وكان عددهم عند خروجهم من مكة تسعمائة، ثم بلغ عددهم بعد قليل ثلاثة آلاف في طريقهم إلى البصرة، واشتروا للسيدة عائشة رضي الله عنها جملًا وركبت في الهودج فوق الجمل، وانطلقوا نحو البصرة.

علم علي رضي الله عنه بهذا الأمر كله، وكان حينها على نيّة الخروج للشام، لكن مع هذه المستجدات قرّر رضي الله عنه الانتظار حتى يرى ما تصير إليه الأمور.
السيدة عائشة رضي الله عنها وجيشها يصلون إلى البصرة


قدِم الجيش الذي خرج من مكة وفيه السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، وقبل دخولهم أرسلوا رسائل إلى عثمان بن حنيف والي البصرة من قِبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يُخلي البصرة لجيش السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأخذ المدد، والأخذ على يد من قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن عثمان بن حنيف رضي الله عنه يعلم من قتل عثمان من أهل البصرة، ولا يعلم أيضًا من وافق من أهلها على القتل، ومن لم يوافق، ولكن مما يُذكر أن حكيم بن جبلة وهو أحد رؤوس الفتنة كان قد هرب من المدينة إلى البصرة بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وكان مختبئًا في مكان لا يعلم به أحد، وهو من رءوس قومه، ومن إحدى القبائل الكبيرة.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:22 PM
.

ثم كان الحوار عن طريق الرُّسل بين السيدة عائشة، ومعها طلحة، والزبير، وبين عثمان بن حنيف والي البصرة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.
فأرسل إليهم عثمان بن حنيف: ما الذي أتى بكم؟
فقالت السيدة عائشة: إن نريد إلا الإصلاح.
أي أنه ما أتى بهم إلى البصرة، إلا لأنهم يريدون أن يجمعوا كلمة المسلمين، وأنهم يرون أنه لن تجتمع كلمة المسلمين إلا بعد أن يُقتل من قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فأرسل عثمان بن حنيف إلى طلحة، والزبير رضي الله عنهما وقال لهما:
ألم تبايعا عليَّ بن أبي طالب؟
فقالا: بايعنا مكرَهيْن.
فوقف عثمان بن حنيف على المنبر يستشير الناسَ في هذا الأمر، فقام رجل يُسمّى الأسود بن سريع، وأشار بأنه لا بأس بأن يضع أهل البصرة يدهم في يد هذا الجيش القادم من مكة لقتل قتلة عثمان ما دام لا يوجد أحد منهم في البصرة، فلما قال ذلك حُصب بالحجارة، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان أعوانًا في البصرة، وكاد أن يحدث ما يخشاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن قتل قتلة عثمان في هذا التوقيت.

ومن ثَمّ رفض عثمان بن حنيف والي البصرة دخول جيش السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، فلما هددوه أنهم سوف يدخلون بالقوة أخذ جيشه ووقف على حدود البصرة، فقام طلحة بن عبيد الله، وخطب في الناس وذكّرهم بدم عثمان، ثم قام الزبير بن العوام، وخطب في الناس خطبة، وبقي الحال على ما هو عليه، ثم قامت السيدة عائشة رضي الله عنها، وخطبت في الناس خطبة عصماء بليغة، ورققت قلوب الناس لدم عثمان رضي الله عنها، وقالت أن من عطّل حدّا من حدود الله فلا تجب له مبايعة إلا بعد أن يأخذ هذا الحدّ، وقد جئنا لأخذ هذا الحدّ، ولو أخذ علي رضي الله عنه هذا الحدّ، وأقامه على مستحقيه بايعناه.


وبعد أن خطبت رضي الله عنها انقسم جيش عثمان بن حنيف إلى فئتين فئة مع السيدة عائشة، وجيشها وفئة ظلّت معه، وقويت شوكة جيش السيدة عائشة رضي الله عنها، وضعفت شوكة جيش عثمان بن حنيف، ومن معه من الموالين لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيهم الكثير من المؤيدين لقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، والقبائل التي منها مَن قتل عثمان، ولو لم تشترك هي في القتل، لكنهم يريدون أن يكون لهم الأمر، فلما كان هذا الأمر بدأ عثمان بن حنيف رضي الله عنه يفكر فيما سيفعله؛ هل يصالحهم درءًا لهذه الفتنة، أم يرسل إلى علي رضي الله عنه؟


وخاف أهل الفتنة من أمر الصلح؛ لأنه لن يكون في مصلحتهم على الإطلاق، فأتى حكيم بن جبلة في هذا الوقت، ومعه قوة من قبيلته، وأنشب القتال مع جيش السيدة عائشة، وبدأ يرميهم بالسهام ويردوا عليه، ودارت الحرب بين الفريقين، وكثر القتلى وكثرت الجراح، فلما رأى عثمان بن حنيف هذا الأمر أعلن أنه يقبل الصلح والتفاهم في الأمر، وكفّ الصحابة رضوان الله عنهم في فريق السيدة عائشة رضي الله عنها عن القتال، واجتمع الفريقان السيدة عائشة، وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا من ناحية، ومن الناحية الأخرى عثمان بن حنيف رضي الله عنه، اتفقوا على أن يرسلوا رسولًا من البصرة إلى المدينة يسأل: إن كان طلحة والزبير قد بايعا مكرهين؟يترك عثمان بن حنيف البصرة بمن فيها، ويخليها للسيدة عائشة، وجيشها، وإن كانا قد بايعا طائعين يرجعوا جميعًا إلى مكة، ويتركوا البصرة، فأرسلوا كعب بن ثور القاضي، فلما ذهب إلى المدينة، وقف في الناس، وكان في يوم جمعةٍ، فأخبرهم بما يحدث في البصرة ثم سألهم:
فهل بايع طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام مكرهيْن أم طائعيْن؟
فقام أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه، فقال: بل بايعا مُكرَهيْن.

فكاد أن يُقتل من قِبل أهل الفتنة، وكانت لهم سيطرة بالمدينة، لولا أن قام صهيب بن سنان الرومي، وأبو أيوب الأنصاري ودافعا عنه، وقالا له: ألا وسِعك ما وسعنا من السكوت.
وعاد كعب بن ثور إلى البصرة، وقال للقوم: بل بايعا مكرهين.
وعلم علي رضي الله عنه بقدوم كعب بن ثور، وعودته بهذا الخبر، فأرسل إلى عثمان بن حنيف رسالة يوضح فيها الجانب الفقهي في أمر الصلح هذا، وأنه غير جائز تمامًا، وأنهما حتى لو بايعا مكرهين، لا يصح ترك الأمر لهما يسيطرا على الأمور، والصواب أن يطيعا الخليفة، حتى وإن بايعا مكرهين، وعثمان بن حنيف رضي الله عنه لم يصالح إلا اضطرارًا نظرًا لضعف جيشه، فأصرّ عثمان بن حنيف رضي الله عنه على عدم تسليم البصرة لهم، وحدث القتال مرة أخرى، وقُتل حكيم بن جبلة في هذا القتال ومعه ستمائة من أهل البصرة، وأُسر عثمان بن حنيف، ولم يُقتل، ثم أطلقوه.


فلما علم علي رضي الله عنه بهذا الأمر، توجه بجيشه وكانوا تسعمائة إلى البصرة، وتوجه بهم إلى (ذي قار) فقابله رجل يُسمى ابن أبي رفاعة بن رافع وقال له: يا أمير المؤمنين أي شيءٍ تريد وأين تذهب بنا؟
فقال له علي رضي الله عنه: أما الذي نريد، وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم بغدرهم، ونعطهم الحق ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم ما تركونا.
قال: فإن لم يتركونا؟
قال: امتنعنا منهم. أي بالسيف.
قال: فنعم إذن. وخرج معهم.
وقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري، فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرنا الله كما سمانا أنصارًا.
وقبل أن يصل إلى (ذي قار) قابله عثمان بن حنيف، وأخبره بما حدث في البصرة ومقتل الستمائة وغيرهم، فقال علي رضي الله عنه: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأرسل ابنه الحسن، والقعقاع بن عمرو، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعًا إلى الكوفة لأخذ المدد منها.

.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:23 PM
كان في الكوفة أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وكان ممن يرى رأي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من اعتزال الفتنة كليةً، وأنه لا يصح أن يقتتل المسلمون بالسيوف، فقام الحسن، والقعقاع، وعمّار رضي الله عنهم جميعًا في المسجد، وأخذوا يقنعون الناس بالخروج معهم، بينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد كلم الناس بأنه يجب اعتزال الفتنة، وعدم الخروج مع أيٍّ من الفريقين، فقام أحد رعاع الناس محاولًا إرضاء الحسن، والقعقاع، وعمّار رضي الله عنهم، وسبّ السيدة عائشة ظنًا منه أن هذا يرضيهم.

فقال له عمار بن ياسر: اسكت مقبوحًا منبوحًا، وقال رضي الله عنه: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا، والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه، أو إياها. والحديث في البخاري.
وقام حجر بن عدي فقال للناس: انفروا إلى أمير المؤمنين خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
وبدأ الناس يميلون إلى رأي القعقاع، وعمار، والحسن رضي الله عنهم جميعا، وخرج معهم اثنا عشر ألفا، وأتى لعلي رضي الله عنه أناس من قبيلة طيئ وقيل له:
إن منهم من يريد الخروج معك، ومنهم من جاء ليسلم عليك.
فقال رضي الله جزى الله كلا خيرا، ثم قال: [وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:95}.

وفي الطريق إلى (ذي قار) قابلهم المستشار الأول لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو عبد الله بن عباس، فقال للقوم:
يا أهل الكوفة، أنتم لقيتم ملوك العجم- أي الفرس- ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق، حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى.
فاجتمع الناس على ذلك.

.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:29 PM
القعقاع رضي الله عنه وبشائر الصلح


وبعد أن اجتمع الجيش في (ذي قار) توجهوا نحو البصرة، وفي هذا الوقت كان الناس بين مؤيد لعلي رضي الله عنه ينضم إلى صفه؛ وبين مؤيد لما عليه السيدة عائشة فينضم إلى صفها، فوصل تعداد جيش علي رضي الله عنه إلى عشرين ألفا، بينما وصل تعداد جيش السيدة عائشة رضي الله عنها إلى ثلاثين ألفا، واقترب الجيشان من البصرة، وكلاهما لا يريد قتالا، فأرسل علي رضي الله عنه القعقاع بن عمرو رضي الله عنه؛ ليتفاوض، ويتحدث في أمر الصلح مع السيدة عائشة، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم جميعا، فقال القعقاع رضي الله عنه للسيدة عائشة رضي الله عنها: أي أُمّاه - فهي رضي الله عنه، أمه وأم جميع المؤمنين - ما أقدمك هذه البلد؟
فقالت رضي الله عنها: أي بني، الإصلاح بين الناس.
فسألها أن تبعث لطلحة، والزبير أن يحضرا عندها، فأرسلت إليهما فجاءا.
فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟
فقالت: إني جئت للإصلاح بين الناس.
فقالا: ونحن كذلك.
فقال: وما وجه الإصلاح، وعلى أي شيء يكون، فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن؟
فقالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك، كان تركا للقرآن.
فقال القعقاع: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير، فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم، فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم، وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون، وتجمعون منه يعني أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعليّ أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقا من ربيعة، ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع.
وبدأ القوم يتأثرون بقوله.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟
قال: أقول: إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر، كانت علامة شر، وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولا، ولا تعرضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وأيم الله إني لأقول قولي هذا، وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.

فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك صَلُح الأمر.

فرجع إلى علي، فأخبره فأعجبه ذلك، وأتفق القوم على الصلح، وكره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه، أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء، وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبا، فذكر الجاهلية، وشقاءها، وأعمالها، وذكر الإسلام، وسعادة أهله بالألفة والجماعة.

وقال علي رضي الله عنه: إني متوجه بقومي إليهم للمصالحة، فمن كانت له يد في قتل عثمان بن عفان فلا يتبعنا، فقاموا معه إلا ألفين وخمسمائة، وهم من شاركوا ورضوا بقتل عثمان رضي الله عنه، ويعلنون ذلك صراحة.

بدأ هؤلاء القتلة يشعرون بتحييد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهم، فخافوا على أنفسهم، وذهب علي رضي الله عنه بمن معه من القوم إلى السيدة عائشة، ومن معها وجاء الليل، وبات الفريقان خير ليلة مرت على المسلمين منذ أمد بعيد، ونام أهل الفتنة في شر ليلة يفكرون كيف سيتخلصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعا، وخططوا من جديد لإحداث الفتنة التي كانت نتيجتها موقعة الجمل.


موقعة الجمل

قبل الدخول في أحداث معركة الجمل نتناول بعض الشبهات والأسئلة ونرد عليها...


الشبهة: مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم تكن مبايعة شرعية، ومن ثَم يحق لمعاوية رضي الله عنه ألا يبايع عليًا رضي الله عنه، خاصة أن من بايعه إنما هم أهل الفتنة، ومبايعتهم غير شرعية وغير جائزة.


الرد: معظم الناس، وخاصة كبار الصحابة، وهم أهل الحل، والعقد، هم الذين بايعوا عليًا رضي الله عنه، ومنهم أيضًا طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام رضي الله عنه اللذين كانا يطالبان بدم عثمان، أولًا قد بايعا، وبايع أيضًا أهل الفتنة، ومبايعتهم في هذا الإطار لا تقدم، ولا تؤخر بعد مبايعة أهل الحل والعقد من الصحابة، ولكن ما حدث أن الرؤى توافقت في هذا التوقيت، فقد كان أهل الفتنة يريدون تولية علي رضي الله عنه، وكان يريد ذلك أيضًا جميع أهل المدينة، ولم يعترض أحد على تولية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لم يكن يعترض مطلقًا على تولية علي رضي الله عنه، ولكن كان الاختلاف في ترتيب الأولويات؛ فمعاوية رضي الله عنه يريد القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه يريد استقرار الدولة أولًا، ثم يرى رأيه في أهل الفتنة، ويقتل منهم من يستحق القتل، ويعزر من يستحق التعزير بعد أن تقوى شوكة المسلمين، وتزول الفتن القائمة.

.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:36 PM
.
الكل إذن على اتفاق على تولية علي رضي الله عنه، ونذكر في هذا الإطار أن عليًا رضي الله عنه كان مرشحًا للخلافة مع عثمان رضي الله عنه، ولم يعدل أهل المدينة به، وبعثمان رضي الله عنهما أحدًا، ولكن كان هناك إجماع على تولية عثمان رضي الله عنه في ذلك التوقيت، فمن الطبيعي أن يتولّى علي رضي الله عنه الإمارة بعد عثمان رضي الله عنه، خاصة بعد أن أجمع أهل الحل والعقد على توليته.


سؤال: كيف يتم اختيار أهل الحل والعقد؟


الإجابة: أهل الحل والعقد في هذه الفترة كانوا هم كبار الصحابة من المهاجرين، والأنصار، وأهل بدر، وكان هؤلاء هم أهل الحل والعقد منذ عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وحتى هذا الوقت، وقت خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان يتجمع هؤلاء جميعًا رضي الله عنهم، ويأخذون القرارات المهمة التي لا يستطيع الوالي أن يأخذ فيها قرارًا بذاته، وبالأولى إذا لم يكن هناك والٍ، ويراد تولية أحد ليكون واليًا على أمر الأمة.


سؤال: لماذا لم يشترك علي ومعاوية رضي الله عنهما في قتل القتلة أولًا، ثم يتم بعد ذلك اختيار الخليفة، ومبايعته؟


الإجابة: اختيار الخليفة ومبايعته أهمّ بكثير من قتل قتلة عثمان رضي الله عنه، وذلك لأن البلاد لا تسير دون خليفة، أو أمير، فكيف يتم قتل هؤلاء القتلة ومن المتوقع حدوث حربٍ ضارية وكبيرة على مستوى الدولة الإسلامية كلها؟


ورأينا كيف قُتل ستمائة من المسلمين في البصرة وحدها، فكيف لو كان الأمر في غيرها من البلاد أيضًا؟


ثم إنه إذا حدثت الحرب، وحدث القتال مع أهل الفتنة، فمن بيده أن يصدر قرارًا باستمرار الحرب أو وقفها، هل هو علي بن أبي طالب أم معاوية أم السيدة عائشة أم طلحة أم الزبير رضي الله عنهم جميعًا؟

ثم إذا حدث أن دولة معادية للدولة الإسلامية استغلت نشوب القتال بين المسلمين وأهل الفتنة في الداخل، وهاجموا الدولة الإسلامية، فمن بيده القرار حينئذٍ؟

وهل يتم وقف الحرب مع أهل الفتنة، وقتال المهاجمين من الخارج، أم يقاتلوا في الجبهتين داخليًا وخارجيًا؟
ومن الذي يستطيع أن يأخذ هذا القرار ولا يوجد خليفة للمسلمين؟
لا شكّ أن الأمر سيكون في منتهى الخطورة، ثم إنه عند تعارض مصلحتين تُقدم الأكثر أهمية فيهما، وتُؤخر الأخرى لوقتها، وإذا تحتّم حدوث أحد الضررين تمّ العمل بأخفهما ضررًا تفاديًا لأعظمهما.

وفي تلك الفترة حدث أمرٌ عظيم كان من الممكن أن يودي بالدولة الإسلامية كلها ولكن الله سلّم.

رأى قسطنطين ملك الدولة الرومانية ما عليه حال الدولة الإسلامية بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فجمع السفن وأتى من البحر متوجهًا إلى الشام للهجوم على الدولة الإسلامية، وبينما هو في الطريق إلى المسلمين، وكانت الهلكة محققة للمسلمين إن وصل إليهم نظرًا لما هم عليه من الفتن والحروب بينهم وبين بعضهم، ولكن الله تعالى بفضله ومنّه وكرمه أرسل على تلك السفن قاصفًا من الريح، فغرق أكثر هذه السفن قبل الوصول إلى الشام، وعاد من نجا منهم، ومعهم قسطنطين إلى صقلية، واجتمع عليه الأعوان، والأمراء، والوزراء، وقالوا له: أنت قتلتَ جيوشَنا. فقتلوه.

وعلى فرض أن قسطنطين هذا نجح في الوصول إلى الشواطئ الشمالية للشام، فمن يستطيع أن يجمّع الجيوش لمحاربة هؤلاء الرومان، وأي جيوشٍ يجمعها، ففي كل بلد أمير، ولكل بلد جيشها، فمبايعة الخليفة إذن كانت أمرًا من الضرورة بمكان.


وإذا نظرنا إلى المدة التي كانت فيها الشورى لاختيار عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن المسلمون في تلك المدّة القصيرة دون أمير، بل كان أميرهم في هذه الثلاثة أيام هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، فلا يصح بحال أن يمر على المسلمين يوم واحد دون أن يكون عليهم أمير، ولما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قد خلعت ما في رقبتي في رقبة عثمان.

.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:39 PM
.

بل إن الصحابة رضي الله عنهم قد اختاروا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولما مات الصديق رضي الله عنه بين المغرب والعشاء، بايع المسلمون في الفجر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فالأمر عظيم، وجلل، ولا يصح تأجيله بحال من الأحوال، وكان من الواجب على الجميع أن يبايعوا الخليفة الذي اختاره أهل الحل والعقد، واختاره أهل المدينة والكثرة الغالبة من أهل الأمصار، وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

سؤال: من الذي استخلفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المدينة عندما توجه إلى الكوفة؟

الإجابة: استخلف رضي الله عنه قثم بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو ابن أخيه، ولم يستخلف أحدًا من أهل الفتنة، بل أخذهم معه في الجيش، وأَخْذِهِ لهم معه في الجيش ضرورة اضطر إليها، وهو رضي الله عنه أكثر الناس كراهية لهم، ولما سمع رضي الله عنه أن جيش السيدة عائشة يدعون: اللهم العن قتلة عثمان.
قال رضي الله عنه: اللهم العن قتلة عثمان.
ولم يأخذهم معه حبًا فيهم أو مساندة لهم.


قصة ماء الحوأب ونباح الكلاب



ذكروا أن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها ومن معها مروا في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب، فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عائشة قالت: ما اسم هذا المكان؟
قالوا: الحوأب.
فضربت بإحدى يديها على الأخرى، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أظنني إلا راجعة.
قالوا: ولم؟
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب.
ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب.
يقول ابن العربي في العواصم من القواصم أن هذه الرواية لا أصل لها، ولم ترد، وأنها غير صحيحة.

لكن البعض صحح هذا الحديث، والشيعة في كتبهم، وكذلك بعض الكتّاب من السنة الذين ينقلون دون تمحيص، أو تدقيق يذكرون هذه القصة في كتبهم ويعلّقون عليها بقولهم: إن السيدة عائشة لما عزمت على العودة لشكها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عناها بأنها هي التي ستنبحها كلاب الحوأب، وأنها بذلك تفرّق كلمة المسلمين يقولون أن طلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبد الله بن الزبير اجتمعوا على السيدة عائشة، وأقسموا لها أن هذا المكان ليس ماء الحوأب، وأتوا بخمسين رجل شهدوا على ذلك، فيقول المسعودي وهو من كبار علماء الشيعة في كتابه (مروج الذهب) عن هذه الشهادة: فكانت أول شهادة زور في الإسلام.
وهذا الحديث كما ذكرنا ليس له أصل، وإن صح فليست السيدة عائشة رضي الله عنها هي المعنيّة بهذا القول، وإنما قالت ذلك- إن كانت قد قالته- تقوى وخشية أن تكون هي المقصودة بهذا الكلام، وأن عبد الله الزبير بن العوام قد قال لها أنها ما خرجت إلا للصلح بين المسلمين، وأن هذا لا ينطبق عليها مطلقًا، وتُذكر رواية أخرى، وهي مشكوك في صحتها أيضًا تقول:
إن إحدى الجاريات كانت موجودة مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم حين وجّه إليهن هذا الكلام، وأن هذه الجارية ارتدت، وقتلت على يد خالد بن الوليد في حروب الردة، وهي المقصودة في الحديث.


ولو صحت الرواية الأولى لكان من المستحيل على السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن تكون قد علمت، وتيقنت أنها صاحبة هذا الأمر، واستمرّت فيه، ومن المستحيل على الصحابة الأخيار الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم جميعًا، من المستحيل أن يكونوا قد شهدوا زورًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد لهم بالجنة.

.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:42 PM
.

رءوس الفتنة يدبرون ويخططون

بعد أن أوشك الطرفان أن يصلا إلى موقف موحد بعد حديث القعقاع مع السيدة عائشة وطلحة والزبير وبعد أن ذهب علي رضي الله عنه بمن معه من القوم إلى السيدة عائشة، ومن معها، وجاء الليل، وبات الفريقان خير ليلة مرت على المسلمين منذ أمدٍ بعيد، ونام أهل الفتنة في شر ليلة يفكرون كيف سيتخلّصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعًا، وخططوا من جديد لإحداث الفتنة.
في هذا الوقت أشار بعض الناس على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام رضي الله عنهما أن الفرصة سانحة لقتل قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك لأن عليًا رضي الله عنه عندما توجه للصلح مع القوم قال:
لا يصحبنا أحدًا شارك، أو أعان على قتل عثمان بن عفان.

فانسلخ من قتل، ومن شارك، وتقدم بقية الجيش للبصرة، فأصبح أهل الفتنة بعزلة عن جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فرفض طلحة والزبير رضي الله عنهما، وقالا: إن عليًا أمر بالتسكين.

فمن الواضح أن لديهم قناعة تامة بالصلح والأخذ برأي علي رضي الله عنه.

واجتمع قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتشاوروا في الأمر، فقال بعضهم: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم، فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليا بعثمان.

فهم يريدون هنا قتل علي رضي الله عنه أيضًا، وهذا مما يدل بشكل قاطع أن عليًا رضي الله عنه لم يكن له أي تعاون مع هؤلاء القتلة، فها هم يريدون قتله، حتى تظل الفتنة دائرة.
فقام عبد الله بن سبأ وقال: لو قتلتموه لاجتمعوا عليكم فقتلوكم.

وهذه الفئة كما نرى إنما هم أهل فتنة، ويطلبون الحياة الدنيا، أما جنود علي رضي الله عنه، ومن مع السيدة عائشة رضي الله عنه، إنما يريدون الآخرة، وإرضاء الله تعالى، والجنة، ويظنون أنهم على الحق، ويجاهدون في سبيل الله، ويحتسبون أنفسهم شهداء في سبيل الله إن قتلوا في ميدان الحرب.

فقال أحد الناس: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها.
أي يرجع كلٌ إلى قبيلته، ويحتمي بها، فرفض عبد الله بن سبأ هذا الرأي أيضًا وقال: لو تمكّن علي بن أبي طالب من الأمور لجمعكم بعد ذلك من كل الأمصار وقتلكم.
وكان عبد الله بن سبأ معهم كالشيطان يرتّب لهم الأمور حتى يتم اختيار الرأي الصائب من وجهة نظرهم.
فأشار على مَنْ معه مِنْ أهل الفتنة في تلك الليلة التي كان المسلمون سيعقدون الصلح في صبيحتها أن تتوجه فئة منهم إلى جيش الكوفة، وفئة أخرى إلى جيش البصرة، وتبدأ كل فئة منهما في القتل في الناس، وهم نيام، ثم يصيح من ذهبوا إلى جيش الكوفة ويقولون:
هجم علينا جيش البصرة.
ويصيح من ذهب إلى جيش البصرة ويقولون: هجم علينا جيش الكوفة.
وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، وقتلوا مجموعة كبيرة من الفريقين، وصاحوا، وصرخوا أن كل من الفريقين البصرة، والكوفة قد هجم على الآخر، وفزع الناس من نومهم إلى سيوفهم وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه من وجوب الصلح، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت من الأمر في ظلام الليل وقد عملت السيوف فيهم، وكثر القتل، والجراح، فكان هَمّ كل فريق هو الدفاع عن نفسه [وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا] {الأحزاب:38} .
وكان أبو سلام الدالاني قد قام إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تلك الليلة، وقبل أن يحدث القتال، وسأله: هل لهؤلاء القوم- يعني السيدة عائشة، وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا- حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟
قال: نعم.
قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟
قال: نعم.
قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا؟ أي بالقتال بيننا وبينهم.
قال: إني لأرجو أن لا يُقتل منا ومنهم أحد نقّي قلبه لله، إلا أدخله الله الجنة.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:47 PM
.

وهذا لأن كل واحد منهما كان متأولًا أنه على الحق، واجتهد في ذلك، فمنهم من أصاب، فله أجران، ومنهم من أخطأ، فله أجر واحد، ولا ينطبق عليهم الحديث: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بَسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.
بداية القتال
بدأت الحرب يوم الأربعاء 15 جمادى الثاني سنة 36 هـ، 7 من ديسمبر سنة 656 م، واستيقظ علي بن أبي طالب رضي الله عنه من نومه على صوت السيوف، والصراخ، والصياح، ولا يعلم من أين بدأ القتال، وكيف نشب بين الفريقين، وكذلك الحال في معسكر السيدة عائشة رضي الله عنها ومن معها طلحة، والزبير، وابنه عبد الله، وسائر الجيش، وصرخ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الناس أن كُفّوا، لكنه لم يستطع لشدة المعركة، فلما نظر رضي الله عنه إلى المسلمين تتطاير رءوسهم بأيدي بعضهم البعض فقال: يا ليتني مت قبل هذا بعشرين سنة.
ونادى في الناس: كفوا عباد الله، كفوا عباد الله.

ثم احتضن ابنه الحسن، وقال: ليت أباك مات منذ عشرين سنة.

فقال له: يا أبي قد كنت أنهاك عن هذا.
قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا.
فلم يكن يتوقع أحد أن تتفاقم الأمور إلى هذه الدرجة، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد ذلك: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وظل رضي الله عنه في محاولة كف الناس عن القتال، لكنه لم يستطع، وقد عمّت الفتنة، واشتد القتال.

- ممن التقى بسيفه مع الآخر في هذه المعركة الزبير بن العوّام، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما.

كم من المرات قاتلا جنبًا إلى جنب تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر، وما بعدها، وكان عُمْر عمار بن ياسر حينها تسعين سنة، وعمر الزبير بن العوام خمسة وسبعين سنة، ومع قدرة الزبير على قتل عمار رضي الله عنهما، إلا أنه لا يستطيع فقد تحملا معًا الكثير في سبيل بناء الدولة الإسلامية التي يُهدم اليوم من دعائمها الكثير، وقد تربيا معًا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُذّبا كثيرًا في سبيل الله، ولكنها الفتنة، وما كان لهما أن يتقاتلا، وهما في هذا العمر دفاعًا عن باطل، أو رغبةً في الدنيا.
فيقول الزبير رضي الله عنه لعمار بن ياسر رضي الله عنه: أتقتلني يا أبا اليقظان؟
ويضربه عمار بن ياسر رضي الله عنه بالرمح دون أن يدخله في صدره ويقول له: لا يا أبا عبد الله.
ويخشى الزبير بن العوّام أن يكون ممن وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالفئة الباغية حين قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
فيخشى الزبير رضي الله عنه أن يكون من هذه الفئة الباغية، ويريد أن يكفّ عنه، وهذا ما حدث، ولم يقتل أحدهما الآخر.


- ويبحث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الزبير بن العوّام رضي الله عنه، ويلتقيان، فيقول علي رضي الله عنه للزبير رضي الله عنه: أما تذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غنم، فنظر إليّ وضحك، وضحكتُ إليه، فقلتَ:
لا يدع ابن أبي طالب زهوه.
فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَرِّدٍ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ؟
فقال الزبير: اللهم نعم! ولو ذكرتُ ما سرتُ مسيري هذا، ووالله لا أقاتلك.

وبعدها أخذ الزبير بن العوّام رضي الله عنه خيله، وبدأ في الرجوع عن القتال، ولم يأخذه الكبر والعزة، وهو أحد رءوس الجيش الذي يبلغ تعداده ثلاثون ألفًا، وذلك لما ذُكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينما هو ينسحب من ساحة القتال، ويعود، يقول له ابنه عبد الله بن الزبير:
جمعت الجموع، ثم تعود.
فيقول الزبير رضي الله عنه: والله لا أقاتل عليًا.
ويخرج الزبير رضي الله عنه من ساحة القتال متجهًا إلى مكة، وفي منطقة تًسمّى وادي السباع، وعلى بعد أميال قليلة من البصرة يتبعه عمرو بن جرموز، وهو ممن كان في جيش علي رضي الله عنه، ومع الزبير رضي الله عنه غلامه، فيقول ابن جرموز لهما: إلى أين المسير؟
فيقولان: إلى مكة.
فيقول: أصحبكما.
وفي رواية أن الزبير رضي الله عنه كان يقول: إني أرى في عين هذا الموت.

ويأتي وقت الصلاة، فيؤمّهما الزبير رضي الله عنه، وبعد أن يكبر تكبيرة الإحرام يهجم عليه ابن جرموز، ويقتله، وهو يصلي، ثم يأتي بسيف الزبير رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه فرحًا مسرورًا، ظانًا بذلك أنه يدخل السرور على قلب علي رضي الله عنه، ويصل الخبر إلى علي رضي الله عنه، فيبكي بكاءً شديدًا، ويرتفع نحيبه، ويمسك سيف الزبير رضي الله عنه ويقول: طالما كشف هذا السيف الكُرَب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورفض علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يدخل عليه عمرو بن جرموز وقال: بَشّر قاتل ابن صفية بالنار.
فلما أُخبر بهذا ابنُ جرموز قتل نفسه فباء بالنار، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:51 PM
.

ولا زال القتال مستمرًا بين الفريقين، وكان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يقاتل بيده اليسرى، بينما كانت يده اليمنى شلّاء من يوم أُحد، حين صد بها الرمح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينما هو يقاتل، وكان عمره أربعًا وستين سنة، أتاه سهم طائش لا أحد يعرف مصدره، ويقول من يكرهون الدولة الأموية: إن الذي رماه بالسهم هو مروان بن الحكم.
ولم تثبت أي رواية هذا الأمر، وقتل هو الآخر رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان هو والزبير رضي الله عنهما من أوائل من أسلم من الصحابة، وظلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي حياتهم كلها مجاهدين في سبيل الله، ويتزعم الجيش في هذا الوقت عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وعن أبيه وأرضاهما.
ويشتد القتال بين الفريقين وتتطاير الرءوس، والأيدي، والأرجل، ويذكر الرواة أن هذه الموقعة كانت أكثر المواقع قطعًا للأيدي والأرجل.
موقف السيدة عائشة رضي الله عنها
وحتى هذه اللحظة لم تدخل السيدة عائشة رضي الله عنها ساحة القتال، فيذهب إليها كعب بن ثور قاضي البصرة ويقول لها: يا أم المؤمنين، أنجدي المسلمين.
فتقوم السيدة عائشة رضي الله عنه وأرضاها، وتركب الهودج ويوضع على الجمل، وتدخل إلى ساحة القتال لتنصح المسلمين بالكفّ عن القتال، وعن هذه المجزرة التي لم تحدث من قبل في تاريخ المسلمين.
وتسيء كتابات مَن تربَوا على أيدي الغرب إلى السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في هذا الموقف، فيقول طه حسين في كتابه (علي وبنوه): إن السيدة عائشة خرجت تتحدث إلى مَن على يمينها محرّضة، وإلى مَن على شمالها محمسة، وإلى مَن أمامها مذكرة، وأنها كانت تشجع الناس على القتال.
ويقول طه حسين أيضًا: إن عليَا رضي الله عنه عندما سمعهم يلعنون قتلة عثمان، قال: يلعنون قتلة عثمان، والله ما يلعنون إلا أنفسهم فهم قتلوه، اللهم العن فتلة عثمان.
ولا يصح من هذا كله إلا الجملة الأخيرة: اللهم العن قتلة عثمان.

وقد قالها علي رضي الله عنه عندما سمع دعاء الفريق الآخر على قتلة عثمان، ولا ندري من أين أتى طه حسين بهذه القصة، وبهذا الكلام الذي لم يذكر أي توثيق له.
وعلى هذا النسق أيضًا تقول زاهية قدّورة في كتابها (عائشة أم المؤمنين): إن السيدة عائشة بدأت تحركاتها الظاهرة لنشر الدعاية ضد علي بحجة المطالبة بدم عثمان، بل إنها اتهمت عليًا بقتل عثمان، ولهذه الخصوم بين عائشة وعلي أسباب:


1- أن عائشة كانت أول زوجة بنى بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وخديجة هي أم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحقدت عليها فاطمة لأنها زوجة أبيها، وحزن علي رضي الله عنه لهَمّ زوجته ونشأت بين علي وعائشة الخصومة بسبب هذا الأمر.
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب السيدة فاطمة حبًا شديدًا، وقال عنها أنها سيدة نساء العالمين، فتقول الكاتبة إن هذا أيضًا جعل الغيرة تزيد في قلب السيدة عائشة.
3- تقول الكاتبة أن عليًا رضي الله عنه أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بتطليق السيدة عائشة بعد حادث الإفك قبل أن يتحقق الأمر، والنساء سواها كثيرًا، وذلك لكراهته لها، وازداد الأمر تعقيدًا كما تقول الكاتبة.
4- أن السيدة فاطمة وزوجها سيدنا علي قد أظهرا الشماتة سرًا أو جهرًا- على خلاف- عندما اتهمت السيدة عائشة رضي الله عنها في حادث الإفك.
5- أن عليًا كان يحقد على السيدة عائشة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرّب أباها أبا بكر رضي الله عنه أكثر منه، ومن ثَمّ حقد عليها، وحقدت هي عليه أيضًا.
6- أن السيدة عائشة لم تُرزق بأولاد بينما رزق علي وفاطمة بالحسن والحسين اللذين كان يحبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوجد ذلك الغيرة عند السيدة عائشة.
7- تذكر الكاتبة أن النبي صلى الله عليه لما مرِض مرَض الموت اختار بيت السيدة عائشة، فغضب علي لهذا الأمر
8- تقول الكاتبة أن السيدة عائشة سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته يأمر أن يصلى أحد بالناس فقالت لبلال: اجعل أبا بكر يصلي بالناس.
فحقد عليها عليّ لهذا الأمر واتهمها به، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال الناس: كيف يرضاه الرسول لديننا بأن أمره أن يؤمهم في الصلاة ولا نرضاه لدنيانا.
فكان خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، فتشير الكاتبة بهذا أن هذه لعبة لعبتها السيدة عائشة ليتسلم والدها الخلافة، ثم تأتي الكاتبة برواية أخرى تقول أن العباس رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه:
امدد يدك أبايعك فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله. فلا يختلف عليك اثنان. فقال له علي: وهل يطمع فيها طامع غيري.
9- بعد وفاة السيدة فاطمة ذهب سائر زوجات النبي صى الله عليه وسلم وقدمن العزاء لعلي رضي الله عنه، ولم تذهب السيدة عائشة، ونُقل على لسانها لعلي رضي الله عنه ما يدل على السرور.
ثم تقول الكاتبة: هذه هي الأسباب التي ظهرت في شكل خصومة انتهت إلى سفك الكثير من الدماء في موقعة الجمل.
وهذا الكتاب من المفترض أن يكون كتابًا لأهل السنة، لكن كل مصادر الكتاب عن علم الكاتبة، أو عن جهلها مصادر شيعية.


وما حدث أن السيدة عائشة رضي الله عنها عندما ذهب إليها كعب بن ثور يطاب منها نجدة المسلمين، ودخلت هودجها، ووضع الهودج على الجمل، ودخلت ساحة القتال نادت على المسلمين جميعًا: الله الله يا بَنِي، اذكروا يوم الحساب.

وأعطت مصحفها لكعب بن ثور وقالت له: ارفعه بين الناس، لعل الله أن يزيل به ما بين الناس.

فلما أخذ المصحف، ورفعه تناوشته السهام، فقُتل لتوّه، ودخلت السيدة عائشة بالجمل في ساحة القتال، ومن ثَم سُمّيت الموقعة بموقعة الجمل، فكان الناس جميعًا يقاتلون حميّة حول الجمل بينما السيدة عائشة رضي الله عنها من داخل الهودج تأمر الناس بالكف عن القتال، إلا أن الناس جميعًا كانوا يتفانون في القتال حول الجمل، وقتل ممن يمسك بخطام الجمل سبعون رجلًا، فكان احتدام القتال، وقوته، ومنبعه من حول جمل السيدة عائشة رضي الله عنها، فأشار القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه بقتل الجمل، أو عقره مع المحافظة والحماية لهودج السيدة عائشة رضي الله عنها، وذلك حتى يهدأ القتال، وتزول الفتنة، واجتمع القوم على الجمل ليقتلوه، أو يعقروه، بينما الفريق الآخر يستميت في الدفاع عن الجمل، وكان آخر المدافعين عن الجمل عبد الله بن الزبير بن العوّام، وهو ابن أخت السيدة عائشة رضي الله عنها، فلما أُخبرت السيدة عائشة بذلك قالت: واثكل أسماء.

فقد ظنت رضي الله عنها أنه سيموت في هذا الموقف، وقد جُرح رضي الله عنه سبعة وثلاثين جرحًا، وكان من المقاتلين الأشداء، لكنه لم يقتل رضي الله عنه، بل استمرت حياته، وامتدت بعد ذلك مدة طويلة.


بعد قتال مرير أفلح فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه في عقر الجمل، ولما وقع الجمل انهارت معنويات جيش السيدة عائشة رضي الله عنها وبدأ الناس يفرون، وأصبح النصر في جانب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورُشق هودج السيدة عائشة رضي الله عنها- قبل أن يسقط- بالرماح من كل جانب حتى أصبح مثل القنفذ كما يقول الرواة، ويأمر علي رضي الله عنه الناس بالكف عن ضرب الهودج بالسهام، والسهام لا تفرق بين الجمل، والهودج منها ما يرمي به أهل الفتنة، ومنها ما هو غير مقصود.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:55 PM
.
واجتمع المسلمون على هودج السيدة عائشة، فرفعوه من على الجمل المعقور ووضعوه على الأرض، وأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن تنصب على الهودج قبّة، فنُصبت عليه خيمة حتى يُحفظ سترها رضي الله عنها، وجاءها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكان مشاركًا في حصار عثمان رضي الله عنه، لكنه تاب، وندم، وبكى، وعاد إلى صف المسلمين وحاول أن يرد القتلة بسيفه عن عثمان رضي الله عنه، لكنه لم يستطع، وبعد ذلك بايع عليًا رضي الله عنه، وها هو الآن يقاتل في صف علي رضي الله عنه، ونحسبه على خير، فقال للسيدة عائشة: هل وصل إليك شيء من الجراح فقالت له: لا، وما أنت بذاك.
مما يدل على عدم رضاها عنه لما فعله ابتداءً في حق عثمان رضي الله عنه.


ثم جاء عمار بن ياسر رضي الله عنه وكان عمره يومئذٍ تسعين سنة بينما كان عمر السيدة عائشة رضي الله عنها أربعًا وأربعين، أو خمسًا وأربعين سنة، فقال لها رضي الله عنه:
كيف أنتِ يا أم؟
فقالت: لست لك بأم.
فقال: بلى، أمي وإن كرهتِ.
بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما
وجاء إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه مسلِّمًا، وسائلًا فقال: كيف أنت يا أم؟
فقالت: بخير.
فقال: يغفر الله لكِ. وفي رواية فقالت: ولكَ.
وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه يسلّمون على أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فما زالوا يعظّمون هذه السيدة التي هي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها حتى نهاية المعركة كانت على يقين تام- بعد اجتهادها- أنها على الحق، وكانت أعلم الناس، وأكثر الناس رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي هريرة رضي الله عنه، وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: كان إذا أُشكل علينا حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدنا عند عائشة علمًا من كل حديث.

وقد كانت رضي الله عنها أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، روى البخاري بسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟
قال: عَائِشَةُ.
فقلت: من الرجال؟
فقال: أَبُوهَا.
قلت: ثم من؟
قال: ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
فعد رجالًا.
ولا خلاف بين أهل السنة أن السيدة خديجة، والسيدة عائشة رضي الله عنهما أفضل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الخلاف اليسير، أيتمها أفضل.


بعد أن انتهت المعركة أدركت أنها كانت على خطأ، وندمت على قدومها، وكانت بعد ذلك كلما ذُكرت موقعة الجمل، بكت، وتمنّت لو أنها قد ماتت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ثم أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يوضع هودج السيدة عائشة- وهي فيه- في أفخر بيوت البصرة، وكان بيت رجل يُسمّى عبد الله بن خلف الخزاعي، تحت الحماية والحراسة معززة مكرمة، ويذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليتفقد قتلى الفريقين، وكانت لحظات شديدة، وقاسية عليه رضي الله عنه، وكان يبكي بكاءً مرّا شديدًا، ويمر رضي الله عنه على طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وهو مقتول، وشهيد في ساحة المعركة، ويجلس بجواره، ويبكي، ويقول: لهفي عليك يا أبا محمد.

ويمرّ على محمد بن طلحة بن عبيد الله، والذي قُتل أيضًا في هذه المعركة، فيبكي عليه، ويقول: هذا الذي كنا نسميه السجّاد. من كثرة سجوده، وقد كان رضي الله عنه تقيًا ورعًا، ويمرّ رضي الله عنه على القتلى من الفريقين يدعو لهم جميعًا بالمغفرة والرحمة ويصلّي على الشهداء من الفريقين، ويأمر بدفنهم، وتُجمع الأسلاب وهو ما تركه جيش البصرة، فيضع علي رضي الله عنه هذه الأشياء في مسجد البصرة ويقول: من كان له شيء يعرفه فليأخذه.

.

أبو يوسف
15-10-2009, 07:58 PM
.
ويأمر رضي الله عنه بعدم الإجهاز على الجرحى، بل مداواتهم، وعدم متابعة الفارّين وألا يُقتل أسير، وذلك لأن كلا الفريقين كان يظن أنه على الحق وكلاهما من المسلمين.
ويريد أهل الفتنة أن توُزع عليهم الغنائم، ومن فقه علي رضي الله عنه أن قال بعدم وجود الغنائم بين المسلمين، وإنما تكون الغنائم من الأعداء، ومع إصرار أهل الفتنة على رأيهم، قال لهم علي رضي الله عنه:
فلنقسّم الغنائم، ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟!
فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا.

ويذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السيدة عائشة رضي الله عنها في بيت عبد الله بن خلف الخزاعي، ويجهزها للذهاب إلى مكة بأفضل ما يكون التجهيز، ويختار لها أربعين امرأة هنّ أشرف نساء البصرة ليرافقنها إلى مكة، ومعها محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعًا.
وعلى باب بيت عبد الله بن خلف الخزاعي ذُكر لعلي رضي الله عنه أن اثنين من الناس يذكران السيدة عائشة بسوء، فأمر بجلد كل واحد منهما مائة جلدة تعزيرًا له على سبّه أم المؤمنين، وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر كما نرى لم يكن فيه منتصر، ومهزوم بالمعنى الحربي؛ لأن الجميع من المسلمين، ومع كون الغلبة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، إلا أنه كان أشد الناس حزنًا، وأسفًا، وألمًا، وكان هذا أيضًا شعور مَنْ غُلِبَ ومَن غَلَبَ على السواء.

وقد استشهد في هذه المعركة العظيمة من كلا الفريقين عشرة آلاف؛ خمسة آلاف من جيش علي رضي الله عنه، وخمسة آلاف من جيش السيدة عائشة، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم جميعًا، وكلٌّ من المسلمين، وقُتُل على أيدي المسلمين، وهذا العدد الضخم في يوم واحد، بينما قُتل في معركة القادسية ثمانية آلاف ونصف، وشهداء اليرموك كانوا ثلاثة آلاف، وشهداء معركة الجسر التي كانت من أشد الكوارث على المسلمين كانوا أربعة آلاف، بينما شهداء موقعة الجمل عشرة آلاف بأيدي المسلمين، فكانت من أشد البلاء على المسلمين [وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُوراً] {الأحزاب:38} . ويجزي الله تعالى من اجتهد منهم فأصاب أجران، ومن اجتهد فأخطأ أجرًا واحدًا، وكل من الأخيار.

.

أبو يوسف
15-10-2009, 08:07 PM
موقعة صفين



بعد انتهاء معركة الجمل حرص علي بن أبي طالب رضي الله عنه على هودج السيدة عائشة رضي الله عنها، ونقله إلى أفخم بيوت البصرة، وعندما أرادت السيدة عائشة رضي الله عنها أن تذهب إلى مكة، أرسل معها أربعين من أشرف نساء البصرة المعروفات، كما أرسل معها أخاها محمد بن أبي بكر، وأرسل معها أيضًا عمار بن ياسر، ومجموعة من الجنود لحمايتهم جميعًا، وسار مع القافلة بنفسه بعض الأميال مشيّعًا، كما سار الحسن، والحسين رضي الله عنهما مسافة أكبر خلف السيدة عائشة رضي الله عنها حتى سلكت طريق مكة.
وقد ودّعت السيدة عائشة رضي الله عنها الناس قبل أن تغادر البصرة، وقالت لهم: لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين عليّ في القدم، إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها - أي أقارب زوجها- وإن عليًا لمن الأخيار.
فقال علي رضي الله عنه: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذاكَ، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
فهذه هي نظرة كل منهما للآخر.

مكثت السيدة عائشة رضي الله عنها في مكة، حتى حجّت هذا العام 36 هـ، ثم عادت بعد الحج إلى المدينة المنورة.

بعد أحداث الجمل بايع أهل البصرة جميعًا عليًا رضي الله عنه، سواءً من كانوا معه، أو من كانوا عليه، وتمكن رضي الله عنه من الأمور، وولّى على البصرة بعد أن تم له الأمر فيها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ترك البصرة، وتوجّه إلى الكوفة التي كان أغلب جيشه منها، ونزل في بيت متواضع، ورفض أن ينزل في قصرها الذي كان يُسمّى القصر الأبيض؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكره هذا القصر لفخامته، ومكث رضي الله عنه في الكوفة ليسيطر على الأمور، ودانت له البصرة والكوفة، وهي مناطق كبيرة، وبها من الجنود الكثير، ولا زال بعض من أهل الفتنة في جيش علي رضي الله عنه إلى هذا الوقت، منهم من قُتل في معركة البصرة الأولى التي قُتل فيها ستمائة، وكثير منهم قُتل في معركة الجمل.

أما مصر فقد كان على إمرتها أثناء خلافة عثمان رضي الله عنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد خرج بجيشه من مصر متوجهًا لنجدة عثمان رضي الله عنه، ولكنه لمّا علم بمقتله توجه إلى الشام، وكان ممن يرى رأي معاوية بن أبي سفيان، وطلحة، وعائشة، والزبير رضي الله عنهم جميعًا مِن أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه من قَتَلَتِه قبل البيعة.

وتولّى الأمور في مصر، وسيطر عليها محمد بن أبي حذيفة الذي كان أحد أقطاب الفتنة مع كونه تربى في كنف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأحد أبناء المجاهدين البررة حذيفة بن عتبة الذي استشهد في اليمامة، ولما لم يعطه عثمان رضي الله عنه الإمارة لعدم رؤيته لكفاءته نقم عليه، وتعاون مع عبد الله ابن سبأ في الفتنة، وتقلّد الأمور بعد ذلك في مصر، وكان معاوية رضي الله عنه في الشام على مقربةٍ من مصر، وهي أقرب إليه من المدينة، ومن العراق، فلما حدثت الفتنة، وحدثت معارك البصرة أرسل معاوية رضي الله عنه جيشًا صغيرًا لمحاربة أهل الفتنة في مصر، فخرج له محمد بن أبي حذيفة في العريش بسيناء، وتقاتلا، وقُتل محمد بن أبي حذيفة، ومعه ثلاثون آخرون من أهل الفتنة، وقبل أن يتمكن جيش معاوية رضي الله عنه من مصر أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه قيس بن سعد أحد رجالاته إلى مصر للسيطرة على الأمور، فذهب، ومعه سبعة من الرجال، فأسرع إليها قبل جيش معاوية، وسيطر عليها، وصعد المنبر، وأعلن أنه يبايع عليًا رضي الله عنه، فبايعه أهل مصر جميعًا إلا فئة قليلة جدًا انحازوا إلى قرية (خربته) بمنطقة البُحَيْرة بمصر، وتركهم قيس بن سعد درءًا للحرب في ذلك الوقت، وتمكّن لعليٍّ رضي الله عنه الأمر في مصر في ذلك الوقت، ولم يعجب هذا الأمر معاوية رضي الله عنه، فأرسل رسالة إلى قيس بن سعد والي مصر من قِبَل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأقام معاوية رضي الله عنه الحجة على قيس بن سعد، وأن معاوية رضي الله عنه يتتبع قتلة عثمان، ويأخذ بثأره ممن قتلوه.

كان قيس بن سعد بعيدًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو في مصر بينما علي رضي الله عنه في العراق، وبينهما معاوية رضي الله عنه في الشام.

لم يردّ قيس بن سعد على رسالة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ردًا حازمًا صريحًا، بل كان في رسالته تردد في الأمر، وأُشيع في الشام أن لقيس بن سعد علاقة في السرّ مع معاوية، وخشي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن تنقلب الأمور في مصر، ويتكرر ما حدث في البصرة، فعالج الأمر بأن عزل قيسًا، وولّى مكانه محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وذكرنا قبل ذلك أن محمد بن أبي بكر كان الصحابي الوحيد الذي شارك ابتداءً في أمر الفتنة، ولكنه رضي الله عنه تاب على يد عثمان رضي الله عنه، ورجع عن ما كان عليه، بل ودافع بسيفه عن عثمان رضي الله عنه، ولكنه لم يستطع أن يثنيهم عن قتل عثمان رضي الله عنه، وشهدت له بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان رضي الله عنهما، وبعد ذلك بايع عليًا رضي الله عنه، وحسن عمله، ونحسبه على خير، والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحدًا.
دانت السيطرة لعلي بن أبي طالب تمامًا على مصر، وبعدما عُزل قيس بن سعد رضي الله عنه رجع إلى علي بن أبي طالب، واعتذر له عن كون ردّه على معاوية رضي الله عنه كان فيه شيءٌ من التردد مما أثار الشكوك حوله، فقبل منه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واشترك قيس بن سعد في جيش علي رضي الله عنه.
أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو في الكوفة رسالتين إحداهما إلى جرير بن عبد الله أمير من قِبَل عثمان بن عفان رضي الله عنه على (همذان) في أرض فارس، وطلب منه المبايعة، فبايع جرير رضي الله عنه كل أهل (همذان)، وأتى بالمبايعة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

والرسالة الأخرى إلى الأشعث بن قيس في (أذربيجان) فأخذ له البيعة من أهلها، فتمت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه البيعة في كل منطقة شرق العراق، وأصبحت كل مناطق الكوفة، والبصرة، وما يليها من البلاد تحت إمرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك المدينة المنورة، ومكة، واليمن، ومصر، ولم يتبق إلا منطقة الشام فقط لم تبايع عليًا رضي الله عنه، والدولة الإسلامية كلها قد اتفقت على أمير واحد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ولم يخالف إلا إمارة واحدة هي إمارة الشام، وإن كانت إمارة كبيرة.
وكانت مشكلة كبيرة تحتاج إلى وقفة حازمة من علي رضي الله عنه، فأرسل جرير بن عبد الله البجلي أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ لكي يتحاور معه من أجل الوصول إلى حل لتلك المشكلة دون الدخول في حرب بين المسلمين، خاصة بعد موقعة الجمل المُرّة، والتي راح ضحيتها عشرة آلاف من المسلمين، وذهب جرير بن عبد الله رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه، وعرض عليه أن يبايع عليًا رضي الله عنه جمعًا لكلمة المسلمين، وتجنبًا للحرب بينهم، فجمع معاوية رضي الله عنه رءوس الشام، وفيهم الكثير من الصحابة، والفقهاء، وكبار التابعين، والقضاة، واستشارهم في الأمر، فاتفق اجتهادهم جميعًا على عدم المبايعة إلا بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقالوا:

إن علي بن أبي طالب قد آوى قتلة عثمان بن عفان، وعطّل حدّاً من حدود الله، ومن ثَم لا تجوز له البيعة.حتى قال المؤرخون : أن وجود قتلة عثمان في صفوف عليّ حقيقة لم يختلف عليها إثنان .


وكان معاوية رضي الله عنه يرى أنه ولي دم عثمان، وأنه لا بدّ من الأخذ بثأره من هؤلاء القتلة، وأنه لا يجوز له بحالٍ أن يقصّر في هذا الأمر، وتأوّل قول الله تعالى: [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] {الإسراء:33}.

ومعاوية رضي الله عنه هو ولي ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد قالت له السيدة نائلة بن الفرافصة رضي الله عنه: أنت وليّه.
وحمّلته هذه المسئولية في الأخذ بثأره ممن قتله.

والآية تشير أن لولي المقتول الحق أن يعفو، أو أن يأخذ له الأمير القصاص، ولا يُحكَّم طالب الدم، ومن ثَم كان لا بدّ أولًا من وجود حاكم قد بايعه الناس أولًا، ويذهب طالب الدم إلى الحاكم بعد أن يبايعه أولًا، ثم يطالبه بالقصاص، لا أن يمتنع عن البيعة، ويطالب بالقصاص، ولكن معاوية رضي الله عنه رفض الاستجابة لجرير بن عبد الله، بل أرسل هو رسلًا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لا يبايعه إلا بعد أن يسلّمه قتلة عثمان بن عفان، أو يقتلهم هو، وبعدها يبايعه.

ويرى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن هذه الفئة هي الوحيدة الخارجة عليه من كل الدولة الإسلامية، ومن ثَم تجب محاربتها لردها إلى الحق، وإلى جماعة المسلمين، ولكنه قبل أن يبدأهم بحربٍ يحاول أن يقرّب وجهات النظر، وأن يسلك مع أهل الشام مسلك التهديد بقتالهم، إن لم يبايعوا، ويعودوا إلى جماعة المسلمين، فأمر بتجميع الجيوش، واستشار الناس، فأشار الجميع بأن تخرج الجيوش، وأن يخرج علي رضي الله عنه بنفسه مع الجيش، وكان ممن عارض خروجه ابنه الحسن، ورأى أن قتال أهل الشام سوف يأتي بفتنة عظيمة، لكن علي رضي الله عنه كان يريد أن يقمع الفتنة من جذورها، وأن يحسم الأمر من بدايته.

.
.

أبو يوسف
15-10-2009, 08:12 PM
خروج الفريقين إلى صفين



خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الكوفة، وعسكر في منطقة النخيلة خارج الكوفة، واستخلف على الكوفة عقبة بن عامر الأنصاري أحد البدريين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل علي رضي الله عنه مقدمة جيشه نحو الشام، وتقدمت هذه المقدمة، حتى تجاوزت نهر الفرات، ووصلت إلى منطقة تُسمّى (صفين)، وتتبع علي بن أبي طالب رضي الله عنه المقدمة بجيشه.

ووصلت الأخبار إلى معاوية رضي الله عنه أن علي بن أبي طالب قد خرج بجيشه من العراق متوجهًا إلى الشام؛ لإجبار أهل الشان على البيعة، فاستشار معاوية رضي الله عنه رءوس القوم، فأشاروا عليه بأن يخرج لجيش علي رضي الله عنه، وألا ينتظر في أرض الشام حتى يأتوه، كما أشاروا عليه أن يخرج بنفسه مع الجيش كما خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع جيشه، ووافق رضي الله عنه على هذا الرأي، وخرج بنفسه على رأس الجيش، وقد كان من مؤيدي الخروج عمرو بن العاص رضي الله عنه، والذي قام وخطب الناس قائلًا:
إن صناديد أهل الكوفة والبصرة- أي عظماءهم وشجعانهم- قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس، وقد قُتل الخليفة عثمان بن عفان أمير المؤمنين، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تتركوه.
أي دم عثمان رضي الله عنه، وحمّس عمرو بن العاص الناس على القتال، وعُقدت الألوية، وخرج معاوية رضي الله عنه بالجيش، وأرسل مقدمة جيشه تجاه جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

كان عُمْر عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو يحمّس الناس في هذا الوقت للقتال 86 سنة، فكان شيخًا كبيرًا، وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووردت أحاديث كثيرة في فضله رضي الله عنه، ولا ينبغي لأحد أن يظن أنه رضي الله عنه، وهو في هذه الفترة من عمره يفكر في الإمارة، أو الدنيا، وهو على أبواب لقاء الله تعالى، ولقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان على مقدمة جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه زياد بن النضر، وعلى مقدمة جيش معاوية رضي الله عنه أبو الأعور السلمي، وتلتقي المقدمتان في منطقة صفين.
وأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أوامره إلى مقدمته يقول لهم: ادعوهم إلى البيعة مرة بعد مرة، فإن امتنعوا، فلا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، ولا يقرب منهم أحد قرب من يريد الحرب، ولا يبتعد عنهم أحد بعد من يهاب الرجال.

وعرضت مقدمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه البيعة على مقدمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مرة بعد مرة، لكنهم رفضوا البيعة، وبدأ الأعور السلمي من مقدمة معاوية القتال، ودار بينهم القتال ساعة، وسقط بعض القتلى والشهداء، ثم تحاجزوا، كان ذلك في أوائل شهر ذي الحجة سنة 36 هـ، أي بعد حوالي سبعة شهور، أو ثمانية من موقعة الجمل، وفي اليوم التالي تناوشت المقدمتان ساعة، ثم تحاجزوا، بعد أن سقط بعض القتلى، والشهداء من الفريقين.

في اليوم الثالث جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه بجيشه، وجاء معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بجيشه.

كان تعداد جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه مائة وعشرين ألفًا، وجمع معاوية رضي الله عنه من أهل الشام وحدهم تسعين ألفًا، وهي أرقام ضخمة لم تصل إليها جيوش المسلمين من قبل، فقد كان تعداد المسلمين في اليرموك ستة وثلاثين ألفًا، وفي القادسية ثمانية وثلاثين ألفًا، بينما هم اليوم في صفين مائتان وعشرة آلاف، وكلهم من المسلمين، مائة وعشرون ألفًا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتسعون ألفًا مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

عندما يصل معاوية رضي الله عنه إلى أرض صفين يجد نهرًا يغذي تلك المنطقة كلها، فيسيطر على النهر، ويقطع الماء عن جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويكاد جيش علي رضي الله عنه أن يموت عطشًا بعد أن قُطع عنه الماء أكثر من يوم، ويتقاتل الفريقان على الماء، وفي آخر هذا اليوم أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه صعصعة بن صوحان إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يقول له:
إنا جئنا كافّين عن قتالكم، حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدمتك، فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه أخرى تمنعوننا الماء.
واستشار معاوية رضي الله عنه رءوس قومه في الأمر، فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه:
خَلِّ بينهم، وبين الماء، فليس من الإنصاف أن نشرب، ويعطشون.

فقال الوليد، وهو أحد من استشارهم معاوية رضي الله عنه:
دعهم يذوقون من العطش ما أذاقوا أمير المؤمنين عثمان بن عفان حين حاصروه في الدار.
فكان هذا رأيًا آخر، والذي حاصر عثمان رضي الله عنه، ومنعه الماء إنما هم أهل الفتنة، وهم يقولون:
إن جيش علي يأوى هؤلاء القتلة، ويجب أن يذوقوا ما ذاقه عثمان بن عفان.
فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح:
امنعهم الماء إلى الليل، فلعلهم يرجعون إلى بلادهم.
وبعد تشاور، وتباحث بين الفريقين اتفقوا على أن يشرب الجميع من الماء دون قتال.

فكان ديدنهم- سبحان الله- أن يقاتلوا حتى إذا كفّ القتال، ذهبوا جميعًا، فشربوا من الماء دون أن يتقاتلوا عند الماء، ثم يأخذ كل فريق قتلاه من ساحة المعركة، فيدفنوهم، ويصلّون عليهم، وهكذا كل يوم.

في اليوم الثالث من هذه الحرب أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مجموعة أخرى لمعاوية رضي الله عنه، فأرسل له بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس، وشُبيس بن ربعي، وقال لهم:
ايتوا هذا الرجل- يعني معاوية- فادعوه إلى الطاعة، والجماعة، واسمعوا ما يقول لكم.
فلما دخلوا على معاوية، بدأ بشير بن عمرو الأنصاري، فقال:
يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك، ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله ألا تفرّق جماعة هذه الأمة، وألا تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية رضي الله عنه: هلّا أوصيت بذلك صاحبكم.
يعني عليَا رضي الله عنه.
فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بهذا الأمر؛ لفضله، ودينه، وسابقته، وقرابته، وإنه يدعوك إلى مبايعته، فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في آخرتك.
فقال معاوية رضي الله عنه: ويُتْرَك دم عثمان، لا والله لا أفعل ذلك أبدًا.

فالقضية عند كل من الطرفين واضحة تمامًا، ولا يرى أي خطأ فيما يراه، ويقاتل كل منهما على رأيه حتى النهاية
.

أبو يوسف
15-10-2009, 08:18 PM
.
فيقول شُبيس بن ربعي: أنشدك الله يا معاوية لو تمكنت من عمار بن ياسر أكنت قاتله بعثمان؟
فقال معاوية: لو تمكنت منه ما قتلته بعثمان، ولكني أقتله بغلام عثمان.

ومعاوية رضي الله عنه لا يقول هذا الكلام حميّةً لعثمان رضي الله عنه، ولا عصبية، ولكنه يرى أنه لا تعطيل لحدود الله مهما صغر المقتول، كغلام عثمان مقارنة بعثمان رضي الله عنهما، ومهما كان القاتل أو من أعان على إيوائه.

وأرسل معاوية رضي الله عنه بعض الرسل إلى عليٍ رضي الله عنه فيهم شرحبيل بن عمرو، وحبيب بن مسلمة، ولكن لم يتم الصلح طوال شهر المحرم.

في آخر يوم من أيام المحرّم استدعى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مناديه يزيد بن الحارث، وأمره أن يخرج إلى أهل الشام ويقول لهم: ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق، وأقمت عليكم الحجة، فلم تجيبوا، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.
وبهذا القول يتضح لنا أنه رضي الله عنه قد قرّر أن يستأنف القتال مرةً أخرى، ولكنه في هذه المرة سيكون أشد وأعنف، ويخطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطبةً عصماء في قومه يحمّسهم على الجهاد في سبيل الله، ثم يقول لهم: ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدّبرًا، ولا تكشفوا ستر امرأة، ولا تُهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحاءهم.

وقام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أيضًا في جيشه، وخطب في قومه خطبةً حمّسهم فيها على الجهاد في سبيل الله وقال لهم:
[اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] {الأعراف:128}.
ويلتقي الجيشان في أول يوم في شهر صفر، وأخرج كلٌ من الفريقين مجموعةً تقاتل الأخرى.

في اليوم الأول أخرج علي بن أبي طالب فرقة كبيرة من جيشه، وعلى رأسها الأشتر النخعي لمقابلة مجموعة مثلها من جيش معاوية.

والأشتر النخعي هذا كان أحد كبار رجال الفتنة كما ذكرنا من قبل، ولكنه كان صاحب بأس شديد، وله كلمة مسموعة في قومه، وكثير ممن خرجوا معه له عليهم الكلمة ورأي، ومن ثَمّ استعان به علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقمع هذه الفتنة سريعًا لبأسه الشديد في الحرب، ولكلمته المسموعه في قومه، وقد كان النخعي قبل أحداث الفتنة من أشد الناس تقوى، ولكنه كان محبًا للرئاسة.
الحكم الشرعي في الاستعانة بقتلة عثمان في المعركة

رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن مصلحة المسلمين العامة تقتضي مقاتلة هذه الفئة التي خرجت على أمير المؤمنين، وخرجت على جماعة المسلمين، ورأى أن من المصلحة أيضًا أن يستعين على قتالهم بهؤلاء القوم من أهل الفتنة لِمَا لهم من العدد والعدة.

وإذا ذكرنا حروب الرسول صلى الله عليه وسلم وجدنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم المنافقين بأسمائهم وأشخاصهم، والمنافقون أشد خطرًا من الكفار [إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا] {النساء:145}. ومع هذا كانوا يشتركون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته، ولم ينكر أحد هذا الأمر.
ففي غزوة أحد كان ثلث الخارجين للغزوة من المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول، ولم يمنعهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الخروج معه، وذلك لأن فتنة منعهم في المدينة، كانت أشد من فتنة قتال المشركين في أحد.

وقد أجمع الفقهاء على جواز الاستعانة في الحرب بالفسّاق من المسلمين، وإنما الخلاف في الاستعانة بالكفار، فيرى الإمام مالك، والإمام أحمد أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الحروب، ويرى الإمام أبو حنيفة جواز الاستعانة بهم على الإطلاق، واشترط الشافعي بعض الشروط لجواز الاستعانة بهم، مع العلم أن أحدًا لم يكفّر قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وعبد الله بن سبأ نفسه كان يظهر الإسلام، وإن كان يبطن الكفر، وهذا هو عين النفاق، والمجموعة التي حاصرت عثمان رضي الله عنه، كانت تنقسم إلى مجموعتين كبيرتين:

- مجموعة تظن أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وذهبت لأجل هذا لخلع عثمان بن عفان، أو قتله، وكذلك قال محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
إنا لا نريد أن نكون يوم القيامة ممن يقول:[رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا] {الأحزاب:67} .
فكان رضي الله عنه يعتقد ابتداءً، ولديه قناعة تامة أن عزله لعثمان رضي الله عنه، أو قتله قربة إلى الله، وكان الكثير منهم قد ضُلّل من قِبَل رءوس الفتنة.


- أما المجموعة الأخرى، فكانت تظهر الإسلام، وتبطن الكفر والكيد والحقد على الإسلام، فكانوا من المنافقين.

*********

من أحداث المعركة


نعود من جديد إلى ساحة المعركة، أخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في اليوم الأول- وكان غرّة شهر صفر- الأشتر النخعي على رأس مجموعة كبيرة من الجيش، وأخرج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حبيب بن مسلمة مع مجموعة كبيرة من جيشه، وتدور الحرب بين الفريقين بشدة من الصباح حتى المغرب، ويسقط الكثير من القتلى الشهداء من الفريقين، ويكون القتال في هذا اليوم متكافئًا ،

- في اليوم التالي الخميس 2 من شهر صفر، أخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد المجاهدين الذين لمعت أسماءهم كثيرًا في فتوح فارس والروم، وأخرج معاوية رضي الله عنه أبا الأعور السلمي، ويدور قتال شديد، ويتساقط القتلى والشهداء من الفريقين دون أن تكون الغلبة لأحدهما.
- في اليوم الثالث يخرج على فريق العراق عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، وهو شيخ كبير قد تجاوز التسعين من عمره، ويخرج في الناحية الأخرى عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه ويتقاتل الفريقان من الصباح حتى المغرب، ولا يتم النصر لأحد الفريقين على الآخر.
- في اليوم الرابع يخرج على فريق علي بن أبي طالب محمد بن علي بن أبي طالب المُسمّى محمد بن الحنفية، وعلى الناحية الأخرى عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ويدور القتال من الصباح إلى المساء، ويسقط القتلى والشهداء من الفريقين ثم يتحاجزان، ولا تتم الغلبة لأحد الفريقين على الآخر.
- في اليوم الخامس يخرج على فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعلى الفريق الآخر الوليد بن عقبة فاتح بلاد أذربيجان وجزء كبير من بلاد فارس في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد ولّاه عثمان رضي الله عنه، وهو ابن خمس وعشرين وسنة، وكانت له جهود كبيرة في الجهاد في سبيل الله، وتقاتل الفريقان طوال اليوم دون أن يحرز أحدهما النصر على صاحبه.
- في اليوم السادس يخرج على فريق العراق قيس بن سعد، وعلى جيش الشام ابن ذي القلاع الحميري، وكان هو وأبوه ذو القلاع في جيش معاوية رضي الله عنه، وقد استشهد والده في هذه المعركة، ويدور القتال الشديد بين الفريقين من الصباح إلى المساء، ويتساقط القتلى والشهداء ويكثر الجرحى دون أن تكون الغلبة لأحد الفريقين.

- في اليوم السابع يخرج للمرة الثانية الأشتر النخعي على مجموعة من جيش العراق، ويخرج على جيش الشام حبيب بن مسلمة الذي قد خرج له في المرة الأولى.
وفي مساء هذا اليوم تبين أن استمرار هذا الأمر، من إخراج فرقة تتقاتل مع الفرقة الأخرى دون أن يكون النصر لأحد سيأتي على المسلمين بالهلاك، ولن يحقق المقصود، وهو إنهاء هذه الفتنة، وكان علي بن أبي طالب رضي الله بفعل ذلك ليجنّب المسلمين خطر التقاء الجيشين الكبيرين، ولئلا تُراق الدماء الكثيرة، فكان يخرج مجموعة من الجيش لعلها أن تهزم المجموعة الأخرى، فيعتبروا ويرجعوا عن ما هم عليه من الخروج على أمير المؤمنين، وكذلك كان معاوية رضي الله عنه يخرّج مجموعة من جيشه فقط دون الجيش كله ليمنع بذلك إراقة دماء المسلمين.
فقرر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يخرج بجيشه كله لقتال جيش الشام، وكذلك قرر معاوية رضي الله عنه، ويبقى الجيشان طوال هذه الليلة يقرءون القرآن، ويصلون، ويدعون الله أن يمكنهم من رقاب الفريق الآخر جهادًا في سبيل الله، ويدوّي القرآن في أنحاء المعسكرين، ويبايع جيش معاوية معاوية رضي الله عنه على الموت، فليس عندهم تردد فيما وصلوا إليه باجتهادهم، ويستعدون للقاء الله تعالى على الشهادة في سبيله، ومع أنهم يعلمون أنهم يقاتلون فريقًا فيه كبار الصحابة؛ علي بن أبي طالب، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، إلا أنه كان معهم أيضًا الكثير من الصحابة معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو من أفقه الصحابة، ولم يكن يرغب على الإطلاق أن يقاتل في صف معاوية، أو علي رضي الله عنهما ولم يشترك رضي الله عنه في هذه المعركة إلا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أوصاه بألا يخالف أباه، وقد أمره أبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يشارك في القتال، فاشترك رضي الله عنه في الحرب، ولكنه لم يقاتل ولم يرفع سيفًا في وجه أحد من المسلمين.

.


.

183/184

أبو يوسف
16-10-2009, 07:32 PM
.

وفي اليوم الثامن يخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه على رأس جيشه، كما يخرج معاوية بن سفيان رضي الله عنه على رأس جيشه، ويدور بين المسلمين من الطرفين قتال عنيف، وشرس لم يحدث مثله من قبل، فهؤلاء هم الأسود الشجعان الذين قهروا دولة الروم ودولة الفرس، وثبت الفريقان لبعضهما ولم يفرّ أحد، ودار هذا القتال من الصباح حتى عشاء هذا اليوم، وتحاجز الفريقان بعد سقوط الكثير من الشهداء، والقتلى والجرحى.


- وفي اليوم التاسع يصلّي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصبح، ويخرج مباشرة لساحة القتال مستأنفًا من جديد، وفي هذا اليوم كان على ميمنة علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبد الله بن بديل، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس، ويهجم عبد الله بن بديل بالميمنة التى هو عليها على ميسرة معاوية رضي الله عنه التي كان عليها في ذلك الوقت حبيب بن مسلمة، ويجبرهم عبد الله بن بديل على التوجه إلى القلب، ويبدأ جيش علي رضي الله عنه في إحراز بعض من النصر، ويرى ذلك معاوية رضي الله عنه، فيوجه جيشه لسد هذه الثغرة، وينجح جيشه بالفعل في سد الثغرة ويردّون عبد الله بن بديل عن ميسرتهم، وقُتل في هذا اليوم خلق كثير، وانكشف جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى وصل الشاميون إلى علي رضي الله عنه، فقاتل رضي الله عنه بنفسه قتالًا شديدًا، وتقول بعض الروايات إنه قتل وحده في هذه الأيام خمسمائة من الفريق الآخر، وقد يكون مبالغًا في هذه الرقم، وخاصةً أنه في أحداث الفتن تكثر الروايات الموضوعة، والكاذبة التي تشمئز منها النفوس، ويتهمون فيها بسوء ظنّهم، وقبْح قصدهم :

يتهمون معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما بأنهما يريدان الإمارة والملك ويخدعان الناس بمكرهما الشديد، ويقذفان في جيش علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، وروايات أخرى مختلقة في إظهار تقوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والفريق الذي معه لينتقصوا بذلك من معاوية رضي الله عنه وجيشه، وكلها روايات شيعية مغرضة ليس لها أساس من الصحة، وكلها تأتي من أبي مخنف لوط بن يحيى أحد الوضّاعين الذي قال عنه الإمام ابن حجر العسقلاني: إخباري تالف لا يوثق به.
وقال عنه الدارقطني: ضعيف.
وقال عنه يحيى بن معين: ليس بتقة. وقال عنه مرة: ليس بشيء.
وقال عنه ابن عدي: شيعي محترق.


بدأ جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الانكسار بعد الهجمة التي هجمها عليها جيش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فيأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأشتر النخعي لينقذ الجانب الأيمن من الجيش، واستطاع بقوة بأسه، وكلمته على قومه أن ينقذ الموقف، وظهر بأسه، وقوته وشجاعته في هذا الموقف، وردّ الأمر إلى نصابه، واستطاعت ميمنة الجيش من السيطرة مرةً أخرى على أماكنها التي كانت قد انسحبت منها.

ويُقَتل في هذا الوقت عبد الله بن بديل وتكاد الكرة تكون على جيش علي رضي الله عنه، لولا أن ولّى عليٌ رضي الله عنه على الميمنة الأشتر النخعي.


.

أبو يوسف
16-10-2009, 07:38 PM
.

استشهاد عمار بن ياسر رضي الله عنه


قرب العشاء يُقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، وكان في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ويقتل معه في نفس الوقت هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في لحظة واحدة.

يقول أبو عبد الرحمن السلمي: رأيت عمارًا لا يأخذ واديًا من أودية صفين إلا اتّبعه من كان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيته جاء إلى هاشم بن عتية وهو صاحب راية، فقال: يا هاشم تقدم، الجنة تحت ظلال السيوف والموت في أطراف الأسنة وقد فُتحت أبواب الجنة وتزينت الحور العين اليوم، ألقى الأحبة محمدًا وحزبه.
ثم حمل هو وهاشم بن عتبة حملةً واحدة فقُتلا جميعًا.

فكان لهذا الأمر الأثر الشديد على كلا الطرفين وحدثت هزة شديدة في الفريقين، وزادت حميّة جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشدة، وزاد حماسهم، وذلك لأنهم تأكدوا أنهم على الحق، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.

وتيقن الناس أنهم على الحق البيّن، وأنهم الجماعة.

وعلى الناحية الأخرى خاف الناس، لأنهم إذن البغاة الخارجين على إمامهم، واجتمع رءوساء جيش معاوية رضي الله عنه، عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأبو الأعور السلمي، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ومعهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وأخذوا يتشاورون في الأمر ويتدارسونه.

*************



عمار والفئة الباغية


بعد قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأرضاه حدثت هزّة شديدة في الجيشين، أما جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيقدّرون عمارًا رضي الله عنه أشد التقدير، فهو أحد شيوخ الصحابة، وقد تجاوز التسعين سنة، ومن أوائل من أسلم، وقد عاصر رضي الله عنه بدايات الإسلام، وعُذّب هو وأهله كثيرًا في سبيل الله، وله في الإسلام مكانته وقدره، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشْتَاقَتِ الْجَنَّةُ إِلَى ثَلَاثَةٍ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
فكان قتل عمّار رضي الله عنه شديدًا على جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه كان أشد على جيش الشام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن عمارًا رضي الله عنه تقتله الفئة الباغية، وها هو رضي الله عنه قد قُتل على أيديهم فهم إذن الفئة الباغية، وليسوا على الحقّ.

أبو عبد الرحمن السلمي، وهو من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد شهد مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه تسلل في هذه الليلة إلى معسكر الشاميين، وسمع حوارًا يدور بين أربعة من قادة الشاميين هم: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وأبو الأعور السلمي.
فقال عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو من كبار الصحابة، وأعلمهم، وله القدر العظيم بين الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، وهو أحد العبادلة الفقهاء الأربعة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فكان رضي الله عنه أحد كبار الفقهاء العُبّاد قال رضي الله عنه:

يا أباه، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال؟
فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: وما قال؟
فقال: ألم يكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس ينقلون حجرًا حجرًا، ولبنة لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين، ولبنتين لبنتين، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن وجهه ويقول: وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
فلما سمع عمرو بن العاص هذا الكلام من ابنه عبد الله ذهب إلى معاوية وقال له: يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد الله؟
فقال: وما يقول؟
فقال: يقول كذا وكذا وأخبره الخبر.
فقال معاوية: إنك شيخ أخرق، أَوَ نحن قتلنا عمارًا، إنما قتل عمارًا من جاء به.


ومن الواضح أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان على قناعة تامة بأنه ليس من البغاة، وأنه إنما يقاتل لإقامة حد من حدود الله تعالى قد عطّله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين لم يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه، وكان هذا الرأي بعد اجتهاد من معاوية رضي الله عنه، لكن اجتهاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تأخير قتلهم إلى أن يستقر حال الأمة، وتهدأ الفتن هو الأصوب، ولكلٍّ أجره؛ من أصاب أجران، ومن أخطأ أجر واحد.


والفئة الباغية في نظر معاوية رضي الله عنه، هم من جاءوا بعمار بن ياسر معهم، فكانوا سببًا في قتله، وخاصة أنه لم يخرج لمحاربتهم، وإنما هم الذين جاءوا.
فلما سمع الناس قول معاوية رضي الله عنه أخذوا يتحدثون بما قاله، يقول أبو عبد الرحمن السلمي: فلا أدري أهم أعجب أم هو؟


يقول محبّ الدين الخطيب، وهو أحد العلماء الأبرار الذين درسوا تاريخ الفتنة جيدًا، وتايخ الشيعة، يقول في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم: الفئة الباغية التي قتلت عمار بن ياسر ليست إلا قتلة عثمان بن عفان، وهي التي يقع على عاتقها هذه الدماء الكثيرة التي سُفكت قبل موقعة الجمل، وفي أثناء موقعة الجمل، وفي موقعة صفين وبعدها، وكل ما جاء من مصائب وكوارث على الأمة بسبب ما فعله أهل الفتنة يعود إثمه عليهم.


لم يهدأ القتال في اليوم الذي قُتِل فيه عمار بن ياسر رضي الله عنه، بل استمر القتال ليلًا، وإلى الصباح، واستمر إلى ظهر اليوم التالي، وصلى المسلمون من الفريقين المغرب، والعشاء، والفجر، إيماءً، وهم على الخيول، أو الجمال، أو وهم يمشون، وسميت هذه الليلة بليلة الهرير، وهذا الاسم سميت به آخر ليلة من ليالي موقعة القادسية التي دارت بين المسلمين والفرس، وشتان بين موقعة يقاتل فيها المسلمون أعداء الله تعالى، وينتصرون، ويدخلون البلاد ليفتحوها لدين الله تعالى، وبين هذه الموقعة التي تتقاتل فيها هذه الأعداد الغفيرة من المسلمين ، واستمرّ القتال على أشدّه طوال الليل، وبدأت الكفّة ترجح بشدة لصالح الجيش العراقي، وبدأت الهزيمة تدبّ في جيش معاوية، وكان النصر وشيكًا لجيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه ..

.

أبو يوسف
16-10-2009, 07:41 PM
.

حيلة رفع المصاحف


في هذه اللحظات أشار عمرو بن العاص رضي الله عنه على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه برأي ينقذ به جيش الشام من الهلكة المحققة له علي أيدي الجيش العراقي، وهم حتى هذه اللحظة على يقين أنهم على الحق، وأنهم يجاهدون في سبيل الحق، وأنهم يجب أن يستمروا في مواجهة من آوى قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه.


فقال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: إني قد رأيت أمرًا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعًا، ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف، وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمِن قائل: نجيبهم. وقائل: لا نجيبهم. فإذا فعلوا ذلك فشلوا وذهب ريحهم.
فأُعجب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بهذا الرأي، ونادى على بعض أفراد الجيش، وأمرهم برفع المصاحف فرفعوها، وقالوا:
يا أهل العراق هذا بيننا وبينكم، قد فني الناس، فمن للثغور، ومن لجهاد المشركين والكفار؟
وعندها سمع جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه حدث فيه انقسام، فقال بعضهم نحكّم كتاب الله تعالى، وقال آخرون:
بل نحن على الحق، ويجب أن نستمرّ في القتال.


وفي مثل هذه الأحداث تكثر روايات الشيعة الضالة المكذوبة التي تصوّر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنه شتم أهل الشام، وسبّهم، ورفض هذا الأمر.
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى الشيعي الذي يضع الروايات، ويفتريها كذبًا وزورًا قال: إن عليًا قال: عباد الله، امضوا إلى حقكم، وصدقكم، وقتال عدوكم، فإن معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح، والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالًا، وصحبتهم رجالًا، فكانوا شر أطفال، وشر رجال، ويحكم، والله إنهم يقرءونها، ولا يعلمون ما فيها، وما رفعوها إلا خديعة، ودهاءً، ومكيدة.
وهذا الكلام لم يحدث على الإطلاق، ولم يصدر من علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل هذا الكلام، وإنما هو من وضع هذا الشيعي الكذاب الوضّاع أبي مخنف لوط بن يحيى.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الراغبين في التحكيم، ووافق على هذه الفكرة التي طرحها جيش الشام، وبدأ يفكر فيمن سيخرج في هذه القضية، قضية التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنه وأرضاه.


.

أبو يوسف
16-10-2009, 07:49 PM
.

حول موقعة صفين



بدأت هذه الموقعة - كما ذكرنا - في بداية شهر ذي الحجة سنة 36 هـ، واستمرت حتى 10 من شهر صفر 37 هـ، وبهذا تكون المعركة قد استمرّت حوالي سبعين يومًا، وكان شهر محرم مهادنة بين الفريقين، وتقول بعض الروايات أن المعركة كانت 110 يومًا، بينما تقول روايات أخرى إن هذه المعركة استمرت سبعة شهور، أو أكثر، وكانت أشد أيام القتال هي الأيام التسعة الأخيرة، وأشدها آخر ثلاثة أيام، لا سيما بعد مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه، وفي الليلة التي سُمّيت بليلة الهرير.




كم عدد القتلى والشهداء في هذه الموقعة بعد هذا القتال المرير الذي استمرّ هذه الفترة الطويلة؟


قُتل من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه خمسة وعشرين ألفًا، وقُتل من جيش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خمسة وأربعين ألفًا أي نصف الجيش، فكان مجموع القتلى والشهداء سبعون ألفًا من كلا الطرفين، لم يجتمع للمسلمين قط منذ بداية الدعوة، ونزول الرسالة حتى هذه اللحظة، لم يجتمع لهم جيش قوامه سبعون ألفًا، وهو عدد القتلى، والشهداء في هذه الموقعة، وكانت خسارة فادحة للمسلمين لم يتوقعها أحد على الإطلاق ممن شارك في القتال، سواء من طرف علي، أو معاوية رضي الله عنهما، ولكن رحى الحرب قد دارت، وكان من الصعب على الجميع التوصل إلى حل لهذا الموقف.


ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبّأ بهذه الحرب العظيمة التي دارت بين فئتين عظيمتين من المسلمين فقد روى البخارى بسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ، فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ. أي أن كلًا من الفئتين يطلبان رضا الله تعالى، ويجاهدان في سبيله، وكلٌّ مجتهد في رأيه، وغالب الفقهاء، وأهل الحديث على أن المقصود بهذا الحديث هذه المقتلة العظيمة التي وقعت في تلك المعركة.

وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ.

والمقصود بالمارقة الخوارج، والذي قتلهم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفئة التي معه، مما يدل على أنهم الذين على الحق.

وروى الإمام مسلم بسنده عن عامر بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل، فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم:

سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعْنِيهَا.

وفي البخاري بسنده عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ] {الأنعام:65}.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ.
قَالَ: [أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ]، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ.
[أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ.


والله عز وجل يقول: [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] {الحجرات:9،10}.


ومن هذه الآيات تظهر لنا بعض الدلالات منها:


أن القتال بين طائفتين من المؤمنين أمر وارد، كما تذكر الآية، ويكون الحلّ الأول حينئذ الإصلاح [فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَ] أما في حالة تعدّي، وبغْي إحدى الطائفتين على الأخرى [فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي] فيجتمع كل المسلمين لمقاتلة هذه الفئة التي خرجت على الإمام [حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] ويذكر الله عز وجل بعد ذلك
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] فلم ينزع الله تعالى عنهم صفة الإيمان، ولم ينزع عنهم صفة الأخوة حتى بعد القتال، وبعد أن سمّاهم بغاة.


.

أبو يوسف
16-10-2009, 07:51 PM
.

وكلا الطرفين في هذه المعركة كان يظن أن الطرف الآخر هو الطرف الباغي المخالف للحق، والمتعدي على الحق، ومن ثَمّ يجوز قتاله لردّه إلى الحق، وكلٌّ مجتهد.
فبعض الصحابة اجتهد، فعلم أن الحق مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع هذا اعتزلوا القتال، وبعض الصحابة لم يعلم مع أي الطرفين الحق، فاعتزل القتال، وبعضهم اجتهد، فعلم أن الحق مع علي رضي الله عنه، فقاتل معه، وبعضهم اجتهد، فعلم أن الحق مع معاوية رضي الله عنه، فقاتل معه.
فكان الأمر من الصعوبة بمكان، وكان فيه اجتهاد كبير، وكان ممن اعتزل الفتنة، ولم يقاتل مع أحد الطرفين أعلام كبار من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقد عاصر رضي الله عنه هذه الأحداث، ولم يشارك مع أيٍ من الطرفين، وكذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأسامة بن زيد رضي الله عنه، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه، وعمران بن حصين رضي الله عنه، وكان ينهي عن بيع السلاح لأحد الطرفين.

بل إن الفقهاء والعلماء الذين جاءوا بعد ذلك بفترة طويلة، ونظروا للأمور نظرة عامة تحيّروا في هذا الأمر، ولم يكن الأمر واضحًا لهم بشكل كامل

الإمام ابن تيمية رحمه الله كان يرى أن الحق مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكنه كان يقول: إن معاوية لم يكن ممن اختار الحرب ابتداءً، بل كان من أشد الناس حرصًا على ألا يكون هناك قتال، ولولا تحرّك علي بن أبي طالب بالجيش من الكوفة إلى صفين لما حدث قتال.
أما الفقهاء الأربعة فيرون جميعًا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان مجتهدًا مصيبًا فله أجران، وأن معاوية رضي الله عنه كان مجتهدًا مخطئًا، فله أجر، وليس عليه وزر، وأضاف الإمام أحمد بن حنبل مع قناعته بكَون علي رضي الله عنه على الحق أن القتال قتال فتنة، وأنه كان من الأصوب ألا يتم، وأن القتال في هذا الوقت، ليس بواجب، ولا مستحب.


وكثير من أصحاب الإمام أحمد، والشافعي، وأبي حنيفة قالوا بأن كلا الطرفين كان مجتهدًا مصيبًا، وأن أمر الله تعالى كان قدرًا مقدورًا.
وبصفة عامة لم يختلف أحد في أن عليًا رضي الله عنه كان مصيبًا في اجتهاده بأنه يجب أن يُبايَع من المسلمين جميعًا، قبل قتل قتلة عثمان رضي الله عنه.
ومن خلال هذا كله نستطيع أن نقول:


إن الفئة الباغية لم تكن واضحة تمام الوضوح في ذلك الوقت في أعين الصحابة المشاركين في القتال، ولم يكن أحد يعلم يقينًا أي الطائفتين على الحق الكامل
ربما نرى الأمور الآن واضحة، وأن الحقّ في صف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن غالب الدولة الإسلامية كان معه ضد معاوية رضي الله عنه، ولكن يجب أيضًا أن ننظر إلى وجهة نظر معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والصحابة الأبرار رضي الله عنهم جميعًا، والتابعين الذين كانوا في جيش معاوية رضي الله عنه، فقد كانوا جميعًا معاصرين لعثمان بن عفان رضي الله عنه، ويعرفون- كالمسلمين جميعًا- مكانته وفضله، وقدره، ومنزلته العالية في الإسلام، وأنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم زوّجه ابنتيه الواحدة تلو الأخرى، فكان من الصعب على معاوية رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، والتابعين، من الصعب على نفوسهم أن يروا هذا الصحابي العظيم، والشيخ الكبير الطاعن في السن أمير المؤمنين يُقتَل هذه القتلة البشعة على أيدي أُناس لا يحفظون حق الله عز وجل، ويريدون إشعال الفتن، وتقويض دعائم الدولة الإسلامية، ومع هذا كله يرون هؤلاء القتلة الذين ارتكبوا هذه الجريمة البشعة يقاتلون في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه ضدهم، فكان لهذا الأمر ألمًا كبيرًا، وجرحًا عظيمًا في نفوسهم، وإن كان عليهم أن يجاهدوا أنفسهم، ويطيعوا أمير المؤمنين، ويبايعوه أولًا؛ لتهدأ الفتن، ثم يحاكم هؤلاء القتلة بعد أن تستقر له الأمور، ويمسك بزمام الدولة، ويكون له من القوة والمنعة ما يستطيع به أن يحاسبهم دون أن تثور عليه قبائلهم الكبيرة وأقوامهم الغفيرة.
لكن كانت تلك وجهة نظر معاوية رضي الله عنه، ومن معه، ويجب أن تُؤخذ في الاعتبار، ويُحكم عليهم من خلالها، وإن كان على المسلم- كما ذكرنا- أن يزن المضار والمنافع، فإذا وجد مضرّتين، ولا بد أن يختار إحداهما فعليه أن يختار أخف الضررين، وكان أخفّ الضررين أن يُؤجّل قتل قتلة عثمان رضي الله عنه إلى أن تستقر الدولة، وتهدأ الأمور، ثم يحاكمهم أمير المؤمنين.


وينبغي أن نذكر في هذا المجال أن الصحابة رضي الله عنهم جميعًا لم يكونوا يصدرون آرائهم على عجل، وتسرّع، بل كانوا يجتهدون، ويستشيرون قبل تنفيذ ما يرونه من رأي، وإذا نظرنا إلى واقعنا وجدنا أننا نطلق الأحكام دون علم، بل ربما على علم ضال خاصة، في هذه القضية- قضية الفتنة الكبرى- التي التصق بها الكثير من الروايات الشيعية المكذوبة والباطلة، والروايات الأخرى التي روّجها المستشرقون والمستغربون، وقد درسناها نحن على أنها حقائق ثابتة، وهي في الواقع أباطيل كاذبة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعجب من أناس على عهده ويقول لهم: والله إنكم تقولون رأيًا في أمور كنا نجمع لها أهل بدر.


ويعلّق الإمام ابن تيمية تعليقًا لطيفًا على هذه الأحداث فيقول:

كان أمر الله قدرًا مقدورًا، ووقعت الفتنة، ولا يدري أحد أي خير وراء هذا الأمر، وهناك أمور من الفقه لم نكن لنعلمها لولا وقوع هذه الفتنة.

وربما كانت ستظل علامات استفهام لفترات طويلة أمام العلماء، ولكنها وضحت من خلال تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع معطيات الأحداث في تلك الفترة.
أولًا: لم نكن لنعرف الفرق بين البغاة، والمحاربين لولا وقوع هذه الأحداث العظيمة، ولم يكن هناك فئة حتى هذه اللحظة منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطبق عليهم لفظ البغاة، ومن ثَمّ لا يعرف أحد ما هو حكم البغاة، وهذا ما حدث بالفعل في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد اختلفوا فيمن يقاتلونهم، فأوضح لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من كبار الصحابة، كمستشاره الأول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أوضحوا للناس حكم البغاة.
نحن نريد أن نفرق بين البغاة، والمحاربين وذلك؛ لأن البغاة لفظ أخف كثيرًا وأسهل وأيسر من لفظ المحاربين، لأن المحاربين أعداء لله ورسوله، وسنفصل في أمرهم لاحقًا إن شاء الله.
.

أبو يوسف
16-10-2009, 07:55 PM
.

من هم البغاة؟



1- أنهم خارجون عن طاعة الإمام العادل التي أوجبها الله تعالى على المؤمنين جميعًا لأولياء أمورهم في غير معصية، فلا يطلق اسم البغاة إلا على قوم خرجوا عن طاعة الإمام العادل الذي يحكم بما أنزل الله، وأمرهم بأمر ليس فيه معصية، فإن خرجوا عليه بعد هذا فقد تحقق فيهم أحد شروط البغاة، أما الحاكم الظالم الذي يأمر بالمعصية، فلا يسمى الخارجون عنه بغاة.
وفي أحداث الفتنة كان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يرى باجتهاده أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد أمرهم بأمر فيه معصية، ولا يجب أن يطيعه في معصية، وهو أمر تأجيل قتل قتلة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية رضي الله عنه يرى أن يُؤخذ القصاص من قتلة عثمان في العاجل؛ لأن معاوية هو ولي عثمان رضي الله عنه، وهو ابن عمه، ولم يعف عن القتلة حتى يسقط القصاص، فكان يرى أن عليًا رضي الله عنه قد عطّل حدًا من حدود الله تعالى ومن ثم فلا طاعة له.
2 - أن يكون الخروج من جماعة قوية لها من الشوكة، والقوة ما يحتاج الحاكم معه إلى قوة وعتاد ومال لردّها، وليست مجرد فئة صغيرة ليس لها سلاح، وخرجت تعترض على الحاكم في أمر من الأمور فهؤلاء لا يُسمّون بغاة.
3- أن يكون لهم تأويلًا سائغًا وحجة واضحة مقبولة في خروجهم على الحاكم، وإن كانت حجّة الإمام أقوى، أما إن كانوا خارجين دون تأويل منازعة للإمام، ورغبة في الإمارة، وحرصًا على الدنيا، ويريدون السيطرة فقط، فهم حينئذ المحاربون.
4- أن يكون لهم أمير مطاع له في الكلمة والرأي ويسمعون له ويطيعون.
فهذه هي الشروط الأربعة التي يجب توافرها في أي فئة حتى يُقال عنهم أنهم بغاة.
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على قناعة تامة، وعلى يقين خالص أن معاوية رضي الله عنه، ومن معه فئة باغية يجب محاربتها، وقد استوفت هذه الشروط الأربعة التي ذكرناها آنفًا.

وحكم البغاة في الشرع يختلف كليةً عن حكم المحاربين في الدنيا، والأمر موكول إلى الله تعالى، ويجب أن يكون واضحًا أن من يقاتل معتقدًا أنه يدافع عن حق، ويقيم حدّا من حدود الله تعالى يختلف تمامًا عن من يقاتل رغبة في الدنيا، ومتاعها، وحرصًا على الرئاسة والوجاهة بين الناس.



أحكام البغاة في الإسلام


1- أن مدبرهم في الحرب لا يقتل، وذلك لأنه مؤمن، والله عز وجل حين ذكر البغاة لم ينزع عنهم صفة الإيمان، بل قال عز وجل:
[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا] {الحجرات:9}.
2- جريحهم لا يُقتل، بل يُترك أو يُداوى.
3- لا يُقتل أسيرهم، بخلاف أسرى المحاربين، أو الكفار فيجوز قتلهم.


وقضية أسرى المحاربين، والكفار متروكة لإمام المسلمين، فإما أن يعفو عنهم منًا بغير فداء، وإما أن يفديهم بمال، أو يفديهم بأسرى، أو بتعليم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، أو بأي فداء يقرره إمام المسلمين، وإما أن يقتلهم.
فإذا كان المسلمون في قوة ومنعه وسيطرة على أعدائهم فللإمام أن يطلق الأسرى منًا بغير فداء، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة وفي ذلك تأليف للقلوب، وأملًا في إسلامهم.

ويمكن تبادل الأسرى، أو فداؤهم بمال، وإذا كان لدى الجيش المعادي علمًا ليس عندك، فتستطيع أن تجعل فداء الأسرى أن يعلموا المسلمين العلم الذي ليس عندهم.
أما إذا كانت قوة المسلمين أضعف من قوة الجيش المعادي الذي يفوقهم في العدد والعدة، فيُقتل الأسير ليُرهب به عدو الله وعدو المسلمين، ولأنه ليس لدى المسلمين القدرة، أو الطاقة على حماية هؤلاء الأسرى، أو إطعامهم، أو السيطرة عليهم.

وإذا نظرنا مثلًا إلى جيشٍ كجيش خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة أُليّس، كان قوام الجيش الإسلامي ثمانية عشر ألفا من المسلمين، والجيش المقابل له مائة ألف أسر منهم خالد بن الوليد سبعين ألفا، فمن يحمي هؤلاء السبعين ألفًا، إن الجيش الإسلامي بكامله لا يستطيعون حمايتهم، أو السيطرة عليهم، بل إنهم يمثلون خطورة بالغة على المسلمين، ولا يتحقق استكمال الفتح إلا بقتلهم.


ومع هذا العدد الذي وصل إليه الجيش الإسلامي في قواته إلا أنه وكما نرى لدى الفرس من الأعداد ما لا يُحصى.
فقد قُتل من الفرس في معركة (الفراد) مائة ألف.
وفي (أُليّس) سبعون ألفًا.
وفي (الأنبار) أكثر من عشرة الآف.
وفي (عين التمر) ثلاثون ألفًا.
وفي (دومة الجندل) خمسون ألفًا.
وفي (البويب) خمسون ألفًا...


وأعداد لا تنتهي من الفرس كلما قُتل منهم جيش جاء جيش آخر، فقد كانت قوة فارس هي والروم أكبر القوى على الأرض، وكانت حدود فارس من غرب العراق، حتى شرق الصين، وهي مساحة شاسعة جدًا فلديهم أعداد كبيرة جدًا من البشر، وكما نرى من الصعب جدًا الاحتفاظ بالأسرى؛ لأنهم يشكلون خطرًا كبيرًا على الجيش المسلم، ومن ثَمّ أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتلهم حتى يفتّ هذا القتل في عضد فارس، ويوفّر على المسلمين الطاقة التي ستُبذل في حمايتهم.
ومن هنا يجوز لولي الأمر أن يقتل أسرى المحاربين، إذا رأى مصلحة المسلمين في ذلك، ولا يكون قتلهم تشفيًا، أو حبًا في القتل، وإنما هو قتل للمصلحة العامة للمسلمين.
أما أسرى البغاة فلا يجوز قتلهم، ولا تُعدّ أموالهم غنيمة، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موقعة الجمل، وقد أخذ المسلمون الذين كانوا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه أموالًا كثيرة من جيش السيدة عائشة رضي الله عنها، فأمر علي رضي الله عنه بوضعها في مسجد البصرة، وقال: من كانت له حاجة يعرفها فليأت فليأخذها.


ولم تُحتسب هذه الأشياء غنائم؛ لأن كلا الفريقين من المسلمين، فقال بعض الجيش الذي معه:
كيف نستحل أرواحهم ولا نستحلّ أموالهم.
ومع إصرار أهل الفتنة على رأيهم، قال لهم علي رضي الله عنه:
فلنقسّم الغنائم ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟!
فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا.
ولا يُضمّنون- أي البغاة- ما أتلفوا من مال، أو نفس أثناء القتال، وقتيلهم من المؤمنين، يُغسّل، ويُكفّن، ويصلّى عليه، ويُدفن، وهذا فرق جوهري بين قتلى الفئة الباغية، ومن يقتل من الفئة العادلة، فقتلى الفئة العادلة شهداء لا يغسلون، ولا يُكفنون، ولا يُصلّى عليهم.

وهذه الأحكام كلها لم تعرف إلا بعد أحداث الفتنة.


أما المحاربون الذين خرجوا على الإمام دون أن يكون لهم تأويل صحيح ودون أن يكون لهم مسوغ يستندون إليه في خروجهم فيكفي أن نقرأ قول الله تعالى: [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {المائدة:33،34}.


إذن فللإمام في أمر المحاربين الذين قد قُدِر عليهم قبل توبتهم أحد أربعة أمور:
1- القتل.
2- الصلب.
3- أن يقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
4- أن ينفيهم من الأرض.
فهذا ردٌ شديد وقاسٍ؛ لأن هؤلاء المحاربين إنما يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا


ولم يكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يرى أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه من المحاربين، بل كان يراه من البغاة، وفي أثناء القتال في صفين كان كل فريق مع حلول الليل يدخل معسكر الفريق الآخر دون أن يُصاب بأي أذى، ويأخذ قتلاه، وجرحاه، ولم يكن معاوية رضي الله عنه، ومن معه يصلون على قتلاهم، بل كانوا يحتسبونهم- باجتهادهم- شهداء؛ لأنه كان على يقين أنه على الحق، وأن فريق علي رضي الله عنه هم البغاة.

.

أبو يوسف
16-10-2009, 08:01 PM
.

التحكيم



بعد معركة صفين، والتي راح ضحيتها الكثير من القتلى والشهداء، والذين بلغ عددهم سبعين ألفًا من المسلمين على يد إخوانهم من المسلمين، وجد الصحابي الجليل سهل بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه وهو أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن في قلوب بعض الناس شيئًا من القتال الذي حدث بينهم، فبعض الناس مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورغم قناعتهم بكونه أمير المؤمنين، وتجب البيعة له والطاعة التامة إلا أن في قلوبهم وأنفسهم حرج من قتلهم لإخوانهم من المسلمين، وكذلك من كان مع معاوية رضي الله عنه، فقال لهم سهل بن حنيف رضي الله عنه كلامًا في غاية الأهمية وينبغي أن ينتفع به المسلمون إلى يوم القيامة قال لهم:
يا أيها الناس اتّهموا الرأي على الدين.

فهو يقصد أن بعض الناس ربما يكون لهم من الرأي ما يخالف الشرع، وتظن أن هذا الرأي هو الصائب، وهو السليم، ويحاول أهل الشرع إقناعهم بالرأي السليم، لكنهم لا يقتنعون بسهولة، أو ربما لا يقتنعون مطلقًا، يقول: فلقد رأيتُني يوم أبي جندل.يقصد رضي الله عنه يوم الحديبية، حين عقد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح مع كفار مكة، وكان من بنود هذا الصلح أن من أتى من قريش، أو ممَن حالفهم مسلمًا ردّه المسلمون إلى قومه، ومَن أتى من المسلمين إلى قريش مرتدًا لا يردّوه إلى قومه، بل يقبلوه بينهم، فكان هذا شرطًا جائرًا، في نظر أغلب الصحابة، إذ كيف يعطون الدنية في دينهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان الكثير منهم يعتقد أن الصواب في غير ذلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم متمسكًا بهذا الأمر، وكان هذا وحيًا من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم، واضطر المسلمون، مع عدم قناعتهم بهذا الرأي في قبول هذا الشرط المجحف- إلى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبول بما رضي به صلى الله عليه وسلم، واشتد على المسلمين يوم آخر، والذي يسميه سهل بن حنيف رضي الله عنه يوم أبي جندل، فبعد أن عُقد الصلح وتمّ، وكان الذي باشر عقد هذا الصلح من طرف المشركين حينئذ سهيل بن عمرو، والذي أسلم بعد ذلك، فجاء أحد المشركين، وأراد أن يدخل في الإسلام، وكان اسمه أبا جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو، فقال سهيل بن عمرو: هذا أول ما نبدأ به، ردّوه علينا.
فأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن إسلامه إلى الكفار، فقال أبو جندل: يا رسول الله تردني إليهم يفتنوني في ديني؟!


وكان هذا الأمر صعبًا على المسلمين جميعًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ سيفه، وأعطاه لأبي جندل وقال له: إنما أنت رجل وهو رجل.
يحرّضه على قتل أبيه.


ومع هذا كله كانت تلك الشروط، وهذه الأمور سببًا للفتح العظيم للمسلمين، فبعد صلح الحديبية بعام واحد دخل في الإسلام أعداد كبيرة كانت ضعف العدد الذي دخل في الإسلام قبل ذلك، وتضاعفت أعداد المسلمين بعد ذلك.


فيقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: يا أيها الناس اتّهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني يوم أبي جند، ولو أقدر لرددت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمرٍ نعرفه، غير أمرنا هذا فإننا لا نسد منه خصمًا، إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له.


فهذا سهل بن حنيف رضي الله عنه مع كل هذا التاريخ العظيم في الإسلام يخبر رضي الله عنه أنه منذ أسلم ما رفع سيفه لقتال إلا أوضح الله له أين الحق إلا هذا الأمر، فلم يتبين فيه الحق بوضوح، وكلٌّ يجتهد حسب ما يرى من الأمور، فكانت فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة.

وهذا عمار بن ياسر رضي الله عنه سُئل يوم صفين عن القتال: أهذا عهدٌ عهده رسول الله إليكم أم هو الرأي؟
فقال رضي الله عنه: لم يعهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا وأشار إلى القرآن.


فالقضية كلها تدخل في مجال الاجتهاد، فمن الصحابة رضي الله عنهم جميعًا من اجتهد فأصاب، فله أجران كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه، ومنهم من اجتهد فأخطأ كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومن معه..

وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، قد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
.

أبو يوسف
16-10-2009, 08:05 PM
.

التحكيم

استمرّ القتال على أشدّه طوال الليل، وبدأت الكفّة ترجح بشدة لصالح الجيش العراقي، وبدأت الهزيمة تدبّ في جيش معاوية، وكان النصر وشيكًا لجيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه اللحظات أشار عمرو بن العاص رضي الله عنه على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه برأي ينقذ به جيش الشام من الهلكة المحققة له علي أيدي الجيش العراقي، وهم حتى هذه اللحظة على يقين أنهم على الحق، وأنهم يجاهدون في سبيل الحق، وأنهم يجب أن يستمروا في مواجهة من آوى قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه :

فقال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما:إني قد رأيت أمرًا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعًا، ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف، وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمِن قائل: نجيبهم. وقائل: لا نجيبهم.
فإذا فعلوا ذلك، فشلوا وذهب ريحهم.

فأُعجب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بهذا الرأي ونادى على بعض أفراد الجيش، وأمرهم برفع المصاحف، فرفعوها وقالوا:
يا أهل العراق، هذا بيننا وبينكم، قد فني الناس، فمن للثغور؟ ومن لجهاد المشركين والكفار؟


وعندها سمع جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وافق غالب الجيش بمن فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على التحكيم، لكن اعترض قلّة من الجيش على أمر التحكيم، ولم يكن لهم صوتٌ عالٍ في هذا التوقيت، لكن عموم الفريقين اتفقوا على هذا الأمر.


وبدأ كل فريق يختار من يخرج لهذ المهمة، ولم يكن في جيش معاوية رضي الله عنه أي اختلاف على من يتولّى أمر التحكيم، فاختاروا عمرو بن العاص رضي الله عنه، والذي كان بمثابة الوزير الأول لمعاوية رضي الله عنه في كل هذه الأحداث، وكان عمره رضي الله عنه في هذا التوقيت سبعة وثمانين سنة، فكان شيخًا كبيرًا من شيوخ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رضي الله عنه، إن كان قد اشتهر بشدة الذكاء، والحيلة فقد اشتهر أيضًا بالورع والتقوى، وكان رضي الله عنه كثير المحاسبة لنفسه، وهذا الأمر يخفيه الكثير من الكتاب المغرضين، ويظهرون عمرو بن العاص رضي الله عنه في صورة صاحب المكر، والخداع، والدهاء، ويكفيه فخرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه: أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.

وفي الحديث الصحيح أيضًا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ. صححهما الألباني.


أما جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما عُرض عليهم أن يخرج للتحكيم عبد الله بن عباس رفض القوم، وطالبوا بأن يخرج عنهم أبو موسى الأشعري، وذلك لأنه رفض الدخول في القتال من بداية الأمر مع يقينه أن عليًا رضي الله عنه على الاجتهاد، وكان رضي الله عنه قاضيًا للكوفة، واعتزل القتال، ولم يكرهه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخروج معه، وكان أبو موسي رضي الله عنه رجلًا تقيًا ورعًا فقيهًا عالمًا، وقد أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ بن جبل رضي الله عنهم جميعًا لتعليم الناس أمور الإسلام، وكان مقربًا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وولّاه أمر البصرة، وكان هذا أمرًا عظيمًا ذلك؛ لأن البصرة كانت تدير عمليات الفتوح في جنوب ووسط فارس، وظل رضي الله عنه فيها فترة كبيرة، وكان رضي الله عنه قائدًا لمعركة (تستر) الشهيرة التي حوصرت سنة ونصف، فهو رجل فقيه عالم قاض محنّك، غير ما أُشيع في الكتب من سذاجة، وبساطة، وسوء رأي نُسبَ إليه ليلصقوا به ما زعموه من كذب وزور في قضية التحكيم، وهو من هذا كله براء.
وتولّى رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ولاية الكوفة فترة طويلة، وكذلك في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذهب إليه القوم في قريته التي كان معتزلًا فيه وقالوا له: إن الناس قد اصطلحوا.
فقال: الحمد لله.
فقالوا له: وقد جُعلت حكمًا.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك لأن هذا الأمر أمر صعب، وشاق عسير أن يحكم بين طائفتين اقتتلا هذا القتال الشديد فترة كبيرة، ووافق رضي الله عنه على الذهاب معهم، حتى يتم التحكيم في هذه القضية الشائكة.
.

أبو يوسف
16-10-2009, 08:09 PM
.
والتقى أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في مكان (صفين)، وبدآ يفكران في كيفية إيجاد حلٍ لهذه المعضلة التي ألمّت بالمسلمين، فاتفقا ابتداءً على كتابة كتابٍ مبدئي يضع أسس التحكيم، ولن يكون هو الكتاب النهائي.
فبدأ أبو موسى يملِى الكتاب وعمرو بن العاص يسمع:


بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما قاضي عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
فقاطعه عمرو بن العاص قائلًا: اكتب اسمه، واسم أبيه، هو أميركم، وليس بأميرنا.
فقال الأحنف بن قيس: لا نكتب إلا أمير المؤمنين.
فذهبوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكروا ذلك له، فقال رضي الله عنه: امح أمير المؤمنين، واكتب: هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب.
وعمرو بن العاص رضي الله عنه باجتهاده مقتنع بعدم ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه للمؤمنين، وإلا ما قاتله، وكان ذلك خروجًا منه على طاعته، ولكن لم يبايعه، وكذلك أهل الشام، وفي اجتهاده أنه ليس أميرًا للمؤمنين.
وقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر؛ حرصًا على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وسعة صدرٍ منه رضي الله عنه وأرضاه.

فكتبوا: هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان أننا نزل عند حكم الله، وكتابه، ونحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله، فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.


ثم ذهب كل من الحكمين إلى كل فريق على حدة، وأخذا منهما العهود والمواثيق أنهما أي الحكمان آمنان على أنفسهما، وعلى أهليهما، وأن الأمة كلها عونٌ لهما على ما يريان، وأن على الجميع أن يطيع على ما في هذه الصحيفة.


فأعطاهم القوم العهود والمواثيق على ذلك، فجلسا سويًا، واتفقا على أنهما يجلسان للحكم في رمضان من نفس العام، وكان حينئذ في شهر صفر سنة 37 هـ، وذلك حتى تهدأ نفوس الفريقين ويستطيع كل فريق أن يتقبل الحكم أيًا كان.


وشهد هذا الاجتماع عشرة من كل فريق، وممن شهد هذا الاجتماع عبد الله بن عباس، وأبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
وخرج الأشعث بن قيس، والأحنف بن قيس رضي الله عنهما، وهما من فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ الأشعث بن قيس الكتاب على الفريقين، فوافق الجميع على هذا الأمر، وبدءوا في دفن الشهداء، والقتلى.


ويقول الزهري: كان يُدفن في كل قبر خمسون نفسًا لكثرة عدد القتلى والشهداء.


وبعد ذك بدأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتوجه بجيشه إلى الكوفة، وكان في يده بعض الأسرى من الشاميين فأطلقهم، وكذلك فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه حيث كان في يده بعض الأسرى من العراقيين فأطلقهم، وعاد كلٌّ إلى بلده.
تحكيم الرجال في دين الله


كان الأشعث بن قيس رضي الله عنه عندما قرأ الكتاب على جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرّ على فريق من بني تميم، وبعد أن قرأ الكتاب خرج له رجل يُسمّى عروة بن جرير من بني ربيعة من تميم، وقال للأشعث بن قيس رضي الله عنه: أتحكمون في دين الله الرجال؟!


فكان هذا الرجل يرى أن حكم الله واضح تمام الوضوح وأنه يجب أن يُقاتل فريق معاوية رضي الله عنه حتى النهاية، ويستنكر تحكيم عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري في أمرٍ واضح كهذا، ثم ضرب بسيفه عجز دابة الأشعث بن قيس، فغضب الأشعث بن قيس رضي الله عنه من هذا التصرف، وكاد أن يحدث الشقاق والخلاف، لولا أن تدخل الأحنف بن قيس وكبار القوم وأنهوا الأمر.


ومرّ الموقف في تلك اللحظة، لكن طائفة من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخذت هذه الكلمة، وبدأت تتحدث بها وظنّتها صوابًا، وكان الكثير ممن ردد هذا الأمر من حفاظ القرآن الكريم، وشديدي الورع والتقوى، وممن يكثرون الصلاة بالليل والنوافل، فأخذوا هذه الكلمة وقالوا: أتحكمون في دين الله الرجال؟
وغضبوا لأمر التحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله.

واستمرّ مسير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى وصل الكوفة، فسمع رجلًا يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء.
وفي هذا لوم له رضي الله عنه على أمر التحكيم.فقال علي رضي الله عنه: لَلَذين فارقناهم خير من هؤلاء، ثم أنشأ يقول:


أَخُوكَ الَّذِي إِنْ أَحْرَجَتْكَ مُلِمَّةٌ =مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَبْرَحْ لِبَثِّكَ رَاحِمًا
وَلَيْسَ أَخُوكَ بِالَّذِي إِنْ تَشَعَبَتْ= عَلَيْكَ أُمُورٌ ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِمًا
.
.

الموضوع القادم : كلمة حق أريد بها باطل وقصة الخوارج

مقتل عثمان والفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهم أجميعين/مقتل عثمان (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=4812)

مقتل عثمان والفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهم أجميعين/موقعة الجمل (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=4822)

الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقصة الخوارج (http://www.abc4web.net/vb/showthread.php?t=4840)

.

سالي الفلسطينية
17-10-2009, 12:24 PM
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

abohmam
19-02-2010, 11:57 AM
بارك الله فيك أخى ابا يوسف

القاسمي
18-11-2010, 09:28 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
رضي الله عنهم جميعا
بارك الله فيك اخي ابو يوسف
وفي الدكتور راغب السرجاني

أبو فارس
03-04-2011, 08:25 PM
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .